بداية العدوان الإيراني على الجزر الإماراتية المحتلة عام 1715 م

تاريخ النزاع الإماراتي الإيراني على الجزر المحتلة

بقلم: د.سالم حميد

2012/04/14

هذه الورقة التاريخية سبق لي نشرها عام 2010 على شكل حلقات متعددة في مدونتي الإلكترونية قبل حذفها، واليوم اعيد نشرها بعد الانتهاك الإيراني الأرعن الذي قام به رئيس إيران أحمدي نجاد بزيارته جزيرة أبوموسى المحتلة، ويجب على جميع المواطنين وغير المواطنين وكذلك الإيرانيين أن يعرفوا تلك الحقائق المغيبة

المقدمة

الموضوع ببساطة هو أن جزءاً من أرضنا محتل ونريد استعادته، وليس هناك مساومة حول هذه القضية، إما أن يصل الأمر بالمتحدث باسم الخارجية الإيرانية رامين مهمانبارست بأن يقول أن التصريحات الإماراتية غير متزنة!! لا بل ويردف أن الجزر إيرانية وستبقى كذلك، وهي قمة الوقاحة ومن يحمل هذه الأفكار المتعجرفة كيف له أن يدعو حكومات المنطقة إلى التكاتف لمنع تحقق أهداف العدو المشترك حسب قوله، وأن تتعاون دول المنطقة لمواجه إسرائيل؟!!

الدولة الإيرانية تسعى لتحقيق مصالحها ولا يهمها أبداً مصلحة العرب، فحين تطالب طهران بتحرير القدس أو أي أرض عربية مغتصبة، فهي تقوم بذلك لمكسب شخصي فلا يمكن أن تكون محتل لبلد وتتطالب بتحرير بلد آخر من الإحتلال، أين المنطق في هذا الأمر؟!

سمو الشيخ عبد الله زايد آل نهيان وزير خارجية الإمارات، تكلم بوضوح ودون مواربة وعبر عن دواخل المواطن الإماراتي، فجزر الإمارات الثلاثة أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، جزء عزيز على قلب الإماراتي، والاحتلال ليس له تعريف آخر، وهو عمل غير أخلاقي ومشين وغير مبرر في كل الأعراف الإنسانية.

سموه أكد أنه لا يوجد فرق بين أرض عربية وأخرى، فالإمارات تدعم حق العرب بأرضهم المحتلة في فلسطين ولبنان وسوريا، لذلك على العرب أن يدعموا بكل وضوح حق الإمارات بإسترجاع أرضها المحتلة وأن يساندوها في المحافل الدولية كافة، فليس هناك أرض عربية أغلى من أخرى. سموه أكد ايضاً أن الإمارات حاولت بسبل شتى ووساطات دول أخرى واللجوء إلى محكمة العدل الدولية، لكن الصلف الايراني واضح وجلى فهم لا يريدون إرجاع جزرنا المحتلة.

أما المواطنين الإماراتيين في جزيرة أبو موسى فسموه أكد مواطنتهم، وأنهم تحت الاحتلال وأبرز عدم القدرة على التواصل معهم وأشار إلى عدم قدرة دولة الإمارات على إرسال المساعدات لهم، كما أن الجانب الإيراني يرفض تقديم أي مساعدات وهم في أوضاع مزرية هناك. وطبعاً فتاريخ احتلال الجزر الإماراتية موثق بالصور والوثائق الرسمية، ففي يوم 30 نوفمبير علم 1971 قامت إيران باحتلال جزيرتي طنب الكبرى والصغرى بطريقة عسكرية، وهجرّت أهل الجزيرة بالقوة، ثم تمادت إيران ولم تحترم المذكرة التي وقعتها آنذاك مع حكومة الشارقة عام 1971 بشأن جزيرة أبوموسى، وقامت القوات البحرية الإيرانية باحتلال الجزيرة وطردت سكانها العرب كما ألقت قوات الشاه آنذالك منشورات تحذر من المقاومة وتكيل بالوعيد.

الدولة الإيرانية أبت إلا أن تكون شوكة في خصر الإمارات! شوكة طال أمدها وحان وقت نزعها، فالمواطن الإيراني يعاني داخل بلد يمتاز بنظام أمني عنيف يقمع من يعارضه أو من يفتح فمه بكلمة ضد نظام الملالي، وما أحداث العنف التي شهدتها إيران في الأشهر القليلة الماضية إلا خير شاهد، فنظام الثورة التي ادّعت أنها ثورة مع المسلمين وحقوقهم ومع نظام الشورى والانتخاب الديمقراطي، كشرت أنيابها عند أول محك، فانتخاباتها المزورة التي أعادت البنجرجي أحمدي نجاد إلى السلطة، وقمعها للثورة الخضراء وتنكيلها بالصحفيين والمعارضين أبرز إنقلاب الثورة على ابنائها.

الدولة الإيرانية ببساطة تشكل الآن قنبلة موقوته، تشكل خطراً كبيراً على المنطقة كلها، وما خديعة تأييد إيران لحقوق الفلسطينين والمطالبة بتحرير القدس إلا جعجعة إيرانية، وإلا لماذا لم تفعل إيران اي شيء لتحرير القدس والأراضي العربية المحتلة من قبل إسرائيل، فأين صواريخ إيران التي لم تدك حصون إسرائيل؟!

الدولة الإيرانية تريد مصلحتها فقط وهذا واضح وجلي، وتريد السيطرة على المنطقة والخطر الإيراني وطموحاته لن ينتهي بثلاث جزر، إنما يبرز دورها بمحاولات تصدير ثورتها الخمينية إلى خارج إطار دولتها من خلال مراكز استخبارتية ومعلوماتية لبست لبس مراكز ثقافية ومستشفيات تقوم بنشر الفكر الايراني الشيعي التوسعي إلى دول منطقة الشرق الأوسط. أما الإعلام العربي فيبدو أن آخر ما يهمه قضية جزر الإمارات الغائبة تماماً عن الأجندة الإعلامية العربية، فكما أن إعلامنا يعنى بشكل كبير بالقضايا العربية، وحريص على إبرازها وتسليط الضوء على الهموم والمشاكل العربية من السودان والصومال إلى لبنان وفلسطين وكافة الدول العربية، فجدير بالإعلام العربي تسليط الضوء على  قضية حق الإمارات في تحرير جزرها الثلاثة.

يا أحمدي نجاد آن لك أن تعيد جزرنا الثلاث المحتلة، فالقضية ليست سوء فهم بل هي ببساطة أرض يجب أن تعود لأصحابها وسوف تعود لأصحابها، إن لم يكن اليوم فسيكون غداً.

إن تاريخ الصراع الإماراتي الإيراني يعود إلى القرن السادس عشر، سطرها الأجداد الأبطال بحبر من دمائهم الطاهرة.

الحلقة الأولى

يعود تاريخ الاحتلال البرتغالي في منطقة الخليج العربي إلى العام 1507، حيث استطاعت القوات البرتغالية من اكتساح السواحل الشرقية (ساحل الشميلية) لإمارات الساحل (دولة الإمارات العربية المتحدة اليوم) وارتكب الغزاة الجدد من أوروبا، باسم الصليب، مجازر فظيعة ضد أهل إمارات الساحل وحرقوا ودمروا وشوهوا الجثث المتناثرة، ومن بقي على قيد الحياة من أسرى إمارات الساحل قام البرتغاليين بجدع أنوفهم وقطع آذانهم!

عندما ذهل أهل إمارات الساحل بتلك السفن البرتغالية الضخمة وبأصحاب البشرة البيضاء وأسلحتهم المتطورة، أعلن حاكم سواحل الإمارات الشرقية الشيخ سيف الدين الجبوري الحرب على الغزاة الجدد، ثم أمر بقرع طبول الحرب عليهم فيما كان الأهالي ينشدون أهازيجهم الشعبية استعداداً للحرب الغير متكافئة بين الطرفين، لكن البرتغاليين كانوا الأقوى واستطاعوا من دحر قوات ساحل الإمارات الشرقي، وانهزم الشيخ سيف الدين وهرب إلى الضفة الشمالية من الخليج العربي إلى بر فارس وذلك في العام 1515، وكانت الهزيمة من قبل البرتغاليين سبباً لبداية الهجرة الإماراتية إلى البر الآخر من الخليج، لكن الحرب بقيت مستمرة مع قيام الدولة اليعربية في عُمان، وقيام الدولة النهيانية في إمارة بني ياس على يد الشيخ فلاح بن ياس والدولة القاسمية على يد الشيخ كايد بن عدوان الذين لقنوا بالتعاون مع الدولة اليعربية البرتغاليين دروساً عسكرية على مدى السنوات اللاحقة، فيما كانت الدولة القاسمية تمد نفوذها لتمشل جميع الإمارات الشمالية وسواحل إيران الجنوبية مع تحديد مدينة لنجة عاصمة للدولة القاسمية في الجنوب الإيراني، وكانت الدولة الصفوية الإيرانية تبحث عن حلفاء يساعدونها على دحر البرتغاليين منذ العام 1600 ودخلوا في معاهدات مع الدولة القاسمية، وكان حاكم إيران يُدعى عباس شاه إسماعيل الصفوي الذي اعترف بملكية الشيخ كايد بن عدوان القاسمي لمساحات شاسعة من الأراضي الواقعة جنوب غرب إيران حالياً، هذا بالإضافة إلى الجزر الجنوبية والتي تتضمن جزيرة طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى، ولكن الدولة الصفوية خانت العهد وحاولت احتلال العاصمة التاريخية لدولة الإمارات رأس الخيمة، فقامت القوات القاسمية بالتعاون مع القوات اليعربية في العام 1631 بسحق الإيرانيين ودحرهم خائبين، وعلى اثر تلك الهزيمة الإيرانية شدد الشيخ كايد بن عدوان على ضرورة إلحاق عدد كبير من أهالي بلاده للهجرة إلى الضفة الأخرى من الخليج كي يحافظ على ممتلكاته ويثبت تبعياته لتلك الأراضي الشاسعة العائدة له.

على الرغم من العلقة الساخنة التي تلقاها الحاكم الإيراني شاه عباس الصفوي إلا أن الأخير استمر في القيام بأعمال صبيانية ومذايقة الإماراتيين في ميناء بندر عباس الحالي، والذي كان تحت حكم قبيلة الزعاب العربية، بسبب انتعاش الحركة التجارية في الميناء ودخول أطراف أجنبية جديدة في المنطقة كالإنجليز والهولنديين، وذلك ابتداءً من العام 1647، وكانت فرصة بالنسبة للمجوس لطلب المساعدة العسكرية من إنجلترا وهولندا ضد الأجداد في إمارات الساحل، وكذلك شكلّت الوفاة المفاجئة لحاكم الدولة اليعربية ناصر بن مرشد آل عرب (أو اليعربي) في العام 1649 عن سن يناهز 46 عاماً فرصة أخرى للإيرانيين للدخول في حروب جديدة مع إمارات الساحل، ولكن الفرس لم يضعوا في حسبانهم أن سكان إمارات الساحل وكذلك الدولة اليعربية في سلطنة عُمان قد تمكنوا من طرد البرتغاليين بصورة نهائية من البلاد ما بين العامين 1649 و1650، وأنهم الآن على استعداد للدخول في حروب جديدة مع الإيرانيين الفرس من جهة، ومن جهة أخرى مع بقية القواعد البرتغالية في الهند والساحل الشرقي للقارة الأفريقية، وكانوا اليعاربة يحققون الانتصارات المتتالية ويجزون أعناق البرتغاليين كل ما ظفروا بهم في مختلف بلدان الرياح الموسمية، وكانت القوات البرتغالية تتساقط وقواعدهم تتحطم وتنهار بفعل القوات العمانية، والتي كانت فيما بعد تحتل تلك البلدان وتضمها إلى الدولة العمانية، بينما الفرس وأمام القوة العسكرية وخاصة البحرية الهائلة للقوات القاسمية في إمارات الساحل والعمانية لم يتجرأوا أو حتى بالتفكير في استفزاز الأجداد لأن الفرس كانوا على علم أن لا طاقة لهم في مواجهة الأجداد، حيث كانت السفن العسكرية للأجداد من مختلف الأحجام والأوزان القادرة على حمل ما بين 50 إلى 80 مدفعاً يدك مدن وحصون الأعداء دكاً.

بالإضافة إلى دخول الفرس في حروب مع إمارات الساحل كانوا أيضاً يقاتلون في الجبهة الأخرى ضد الدولة الأفغانية، بينما كان الأجداد يراقبون الأوضاع في الدولة الإيرانية تحسباً لأي هجوم إيراني مباغت سواء في الأراضي التابعة لإمارات الساحل في البر الفارسي أو البر الإماراتي العربي، وفي العام 1694 تقلد الحكم في الدولة الفارسية حاكماً جديداً اسمه شاه حسين طهماسب، ولكن الأجداد بالإضافة إلى اليعاربة لم يمهلوا الحاكم الجديد وباغتوه بالهجوم في العام 1707 وسحقوا عدداً هائلاً من السفن الإيرانية سواء كانت سفن عسكرية أو تجارية بحجة أنها تخترق المياه الإقليمية لإمارات الساحل، حينها أذعنت الدولة الفارسية ووافقت على دفع رسوم عبور المياه التابعة لإمارات الساحل لأن حرب الفرس مع الأفغان انهكتهم جداً، ولم يكن الإيراني طهماسب راغباً في تلقي المزيد من الخسائر العسكرية. ثم ما لبثت الدولة الفارسية أن تعرضت لهزيمة في غاية القسوة من قبل الأفغان وانهارت بلاد فارس، بينما ازدادت الهجرات العربية من إمارات الساحل إلى البر الفارسي لإقامة من المزيد من القرى والمدن العربية التابعة للإمارات والدولة الفارسية عاجزة حتى عن استنكار الاحتلال الإماراتي لأراضيها، وقامت عدة قبائل من إمارات الساحل بتأسيس المناطق العربية وعلى رأسهم مدينة لنجة الساحلية في الجنوب الإيراني حالياً ومنطقة الدوار ومنطقة بيخة وبنج وبندر مسلم ومهركان وبركة صالح وقرى كريز وقرى سني وهرمند وأميران وجبنه وجشه وبستانه وبلدة تاونة والمقام والعرمكي، بالإضافة إلى ملكية إمارات الساحل لجميع الجزر في الخليج، ومن القبائل العربية الشهيرة المهاجرة إلى البر الفارسي كانت قبيلة القواسم وآل حماد والنصور وآل علي والمرازيق والعبادلة والمعين وغيرهم الكثير، هذا بالإضافة إلى إقامة القواعد العسكرية العديدة خشية أي هجوم إيراني.

في العام 1715 تجرأت قوات الفرس على القيام بهجوم مباغت على بعض السفن التابعة لإمارات الساحل وسلطنة عُمان بقيادة شخص يُدعى شجاع الدين العجمي، وهو شخص بعيد عن الشجاعة وأقرب إلى الجبن بسبب مهاجمته لسفن غير عسكرية، مع العلم أن هذا القائد الفارسي كان تحت الحماية القاسمية في مدينة لنجة القاسمية، ولكن قائد القواسم الشيخ قضيب بن كايد لم يمهله على خيانته وقام على الفور بمهاجمة قاعدته العسكرية في الجنوب الإيراني، وكانت السفن العسكرية التابعة لإمارات الساحل تمطر الجنوب الإيراني بوابل من نيران المدفعية وتدكها دكاً بينما الفرس عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم ورفعوا راية الاستسلام وهرب القائد شجاع الدين خلسة بينما قدم الآخرين من الفرس العسكريين أنفسم على أنهم أسرى حرب. من جهتها، طالبت الدولة الفارسية بعودة أراضيها المحتلة من إمارات الساحل وارسلت المزيد من القوات، فقام أمير القواسم الشيخ رحمة بن مطر القاسمي من رأس الخيمة في العام 1716 بإرسال قوات قاسمية للسيطرة على المزيد من الجزر، وعلى رأسها جزيرة “القسم” في مضيق هرمز، وكان الفرس في شدة الهول من منظر الأسطول القاسمي الضخم الذي قام بعملية إنزال في غاية البساطة في الجزيرة التي خضعت للسلطة القاسمية، وحاولت المدفعية الإيرانية إطلاق قذائفها لكن قذائف سفن إمارات الساحل أشد قوة ورهبة، ثم قاموا بفرض حصار على الفرس الذين استسلموا على الفور.

لم تكتفي قوات إمارات الساحل والعمانية بذلك الانتصار البسيط وقرروا طرد الفرس من جزيرة البحرين عام 1717، وبالفعل باغتوا الفرس بهجوم خاطف على الرغم من الاستعدادات الإيرانية في البحرين، وتمكن الأجداد من سحق القوة الفارسية في جزيرة البحرين مع قتل عدد هائل من الجنود الفرس فيما هرب قائدهم إلى موطنه في الضفة المقابلة من الخليج العربي، وعلى اثر ذلك الانتصار أيضاً إزدادت رقعة السيطرة الإماراتية والعمانية على سواحل الخليج، بينما الفرس في غاية القهر.

شهدت السنوات اللاحقة حدوث حروب أهلية كثيرة في داخل الدولة العمانية وشهدت الكثير من الاغتيالات والصراع على السلطة بعد وفاة الإمام سلطان بن سيف آل عرب، وشهدت أيضاً حدوث إنشقاق في الدولة العمانية وإمارات الساحل وبروز حلفين عسكرين: الحزب الهنائي والحزب الغافري، وكانت الأوضاع في غاية السوء وفي تخبط مستمر من سيء إلى اسوأ وتناحر الأشقاء بعضهم البعض، بينما العدو الفارسي في غاية السعادة من هذا الوضع المزري، وبسبب تلك الأوضاع اضطر أمير القواسم الشيخ ارحمة بن مطر القاسمي إلى إصدار أوامره في العام 1723 بسحب أعداد كبيرة من كتائبه العسكرية من البر الفارسي من عاصمة القواسم لنجة وعودتها إلى البر الإماراتي لدعم الحرب الأهلية في إمارات الساحل والدولة العمانية، ثم ازدادت حدة الصراع ودخل القواسم في حروب ومعارك حامية الوطيس مع الأطراف المتنازعة في الدولة العمانية، وكانت المعارك من جميع الجبهات البرية والبحرية والجبلية، وبدلاً من أن تتعاون قوات إمارات الساحل مع القوات العمانية ضد العدو الفارسي، دخل الأشقاء في حروب في ما بينهم والأساطيل البحرية ومدفعيتها تنهش بعضها البعض.

مع إزدياد حدة الصراع دخلت إمارة بني ياس أيضاً في تلك المعمعة، ومع انشغال القواسم بالحرب الأهلية حاول الفرس السيطرة على جزيرة القسم القاسمية من جديد عام 1726، لكن سرعان ما اكتشف القواسم الخطة الإيرانية وقاموا على الفور بعمليات إنزال في الجزيرة، لكن الفرس استجاروا بالبريطانيين طالبين منهم العون ضد القواسم، فارسلت بريطانيا النجدات إلى جزيرة القسم لطرد القواسم، وكانت تلك الحادثة بداية أو شرارة الحرب ما بين القوات القاسمية والقوات البريطانية، ولكن معركة عام 1726 انتهت بدخول الطرفين في مفاوضات لنزع فتيل الحرب من جهة، ومن جهة أخرى النظر في المطالبات الفارسية بجزيرة القسم لأن الفرس يدّعون أن تلك الجزيرة من الملحقات الفارسية.

في العام 1731 شعرت إمارات الساحل والمتمثلة في دولتين منفصلتين وهما إمارة بني ياس وإمارة القواسم بنوع من الملل من الصراع العماني الداخلي الغير راغب في الانتهاء، وقررا اتخاذ موقف محايد نظراً للخطر الفارسي المتربص بإمارات الساحل وملحقاتها في البر الفارسي. وقد شهد هذا العام أيضاً بروز حاكم جديد للدولة الفارسية وهو نادر شاه والذي بمجرد ان استلم زمام السلطة في فارس عمل على تطوير القوات البحرية وشراء أحدث الأسلحة من بريطانية وأحدث السفن الحربية البريطانية والهولندية، وقام بتخصيص ميناء بوشهر الإيراني كقاعدة لسلاح البحر الإيراني ومن خلاله يتم تسيير الأساطيل الفارسية ضد إمارات الساحل. وأمام التطور الكبير الذي شهدته القوات البحرية الإيرانية واستمرارية الحرب الأهلية في الدولة العمانية، قام حاكم عُمان سيف بن سلطان آل عرب في العام 1736 بفتح قنوات دبلوماسية مع الدولة الفارسية طالباً من الفرس العون العسكري في حروبه الأهلية داخل الدولة العمانية!

لقد أخطأ الحاكم العماني سيف بن سلطان خطأً جسيماً في حق بلاده عندما طلب العون من الفرس، حيث كانت تلك الخطوة بمثابة دعوة مفتوحة للفرس للتغلغل في أراضي الدولة العمانية، لأن حاكم الفرس نادر شاه لم يصدق أنه سيحوز على تلك الكعكة المجانية، وجهزّ على الفور جيوشه التي بلغت تعدادها أكثر من 4000 جندي مقاتل من جنود البحرية الإيرانية بقيادة القائد البحري لطيف خان، والذين سارعوا بالتوجه نحو جزيرة البحرين واستباحوها بعد أن قضوا على حركة المقاومة. من جهة أخرى، أبدت الدولة البريطانية والدولة الهولندية رغبتهما في الدخول مع الدولة الإيرانية في حلف عسكري من أجل القضاء على العدو المشترك اللدود إمارات الساحل وتدمير قوة مشيخات إمارات الساحل البحرية، وهذا ما قبله نادر شاه فوراً من دون تفكير، وسارعت بريطانيا وهولندا في إرسال قطعاتها البحرية المتطورة وأحدث مدافعها مشكلين اسطولاً عظيماً من القوات الفارسية والبريطانية والهولندية، ثم تقدم هذا الأسطول العظيم نحو مدينة خورفكان على الساحل الشرقي من إمارات الساحل، وذلك في يوم 4 ابريل من العام 1736 وفتح الأعداء نيران مدافعهم بلا هواده على رؤوس الأبرياء، لكن الفرس لم يتجرأوا على القيام بعملية إنزال خشية أن تتعرض أعناقهم للجز من قبل أهالي خورفكان، وبعد أن اكتفوا بما اسقطوه من قذائف في خورفكان توجه الفرس نحو مدينة رأس الخيمة ليعسكروا هناك بناءً على طلب الحاكم الخائن سيف بن سلطان آل عرب (اليعربي).

الحلقة 2

بسبب خيانة الحاكم الخائن المخلوع سيف بن سلطان آل عرب، مكّن الأخير القوات الإيرانية من دخول بعض مناطق إمارات الساحل، وتم تشكيل جيشين فارسين، أحدهما في منطقة خورفكان والأخرى في صحراء الظاهرة الواقعة بين حدود الإمارات وعُمان، وذلك في فصل الصيف وتحديداً شهر يونيو من العام 1736، وحاول أمير القواسم الشيخ ارحمة بن مطر القاسمي في رأس الخيمة مواجهة تلك الألوف المؤلفة من القوات الفارسية والتي بلغت أكثر من 4000 جندي، لكنه خسر المعركة في العام 1737، كما تمكنت القوات الفارسية من هزيمة القوات القاسمية في بندر عباس بسبب الدعم اللا محدود من القوات الهولندية والبريطانية للفرس، أما في بادية الظاهرة فقد خرجت القبائل البدوية لمحاربة الفرس ومن معها من الخونة من أسرة آل عرب العمانية، لكن الفرس تمكنوا أيضاً من تحقيق الانتصار على تلك العشائر البدوية الموالية لإمام عُمان، وقام الفرس بالتنكيل وتمزيق من بقي على قيد الحياة من بدو الظاهرة، وأعدموا من استسلم، ومن نجح في الهروب من أرض المعركة هلك من العطش في صحراء الظاهرة، وتباعاً لتلك الهزيمة استمرت القوات الفارسية في التقدم نحو بقية المدن العمانية التي بدأت في التساقط، ومنها البريمي وضنك وعبري ثم عادت مرة أخرى إلى رأس الخيمة، وكان القائد الفارسي لطيف خان في غاية السعادة من ذلك الانتصار معتقداً أن المعركة قد انتهت بالفعل، وأعلن نفسه حاكماً فارسياً على إمارات الساحل (إمارة القواسم فقط) وإمامة عُمان.

ساد الهرج والمرج في إمارات الساحل وعُمان بسبب هذا الانتصار الغير متوقع من الفرس، فلولا الدعم والسلاح البريطاني الهولندي لما تمكن هؤلاء من تحقيق أي انتصار، ثم قام الحُكام والمشايخ في إمارات الساحل وإمامة عُمان في العام 1738 بإرسال الرسائل والخطابات المنددة والمستنكرة إلى الحاكم الخائن المخلوع سيف بن سلطان اليعربي بسبب اعتماده على مرتزقه من الفرس من أجل تحقيق الانتصارات على اشقائه، ولم يضع في حسبانه أن الفرس هؤلاء كانوا يستمتعون بجز أعناق الأبرياء في كلتا البلدين إمارات الساحل وإمامة عُمان، لكن الغريب في أمر الخائن سيف بن سلطان أنه بدلاً من أن يندم على ما فعل قام بمخاطبة حاكم الدولة الإيرانية نادر شاه يطلب منه إرسال المزيد من القوات لتدمير المزيد من المدن في إمامة عُمان!

نادر شاه كان في غاية السعادة من خطاب سيف بن سلطان اليعربي، وفكرّ جدياً في ضم إمارات الساحل وعُمان على أنهما محميات فارسية! وأصدر أوامره لإرسال حملة عسكرية ثانية بقيادة القائد العسكري تقي خان، ووصلت الحملة إلى رأس الخيمة المنهارة من الضربات الفارسية المتتالية لها، وحاول القواسم من جديد مقاومة الحملة العسكرية الفارسية الثانية لكنهم فشلوا، ونجح الفرس في إنزال المزيد من آلاف الجنود في رأس الخيمة ومن هناك توجهوا نحو بقية المدن العمانية، ومنها مدينة بهلا ثم نزوى، وكانت الحصون العمانية تتساقط من قوة المدافع الفارسية، وبعد كل هزيمة عمانية كان الفرس لا يبقون أحداً على قيد الحياة، وبلغ عدد القتلى العمانيين في بهلا ونزوى أكثر من 10 آلاف قتيل، ولم يرحم الفرس لا طفل ولا امرأة ولا شيخ ضعيف لا حول لهم ولا قوة في ظل مباركة سيف بن سلطان الذي مكّن الفرس من أهله وناسه وهو يشاهدهم يُقتلون على يد الفرس! ثم واصل الفرس تقدمهم وسقطت مدينة أزكى العمانية.

شعر سيف بن سلطان بعدم الأمان مع الفرس وخاصة مع قائدهم لطيف خان، بعد أن قرر الأخير بالتقدم نحو مدينة مسقط، مع العلم أن مسقط كانت لا تزال موالية سيف بن سلطان فلماذا يقرر الفرس مهاجمتها؟! حينها، أدرك الخائن فداحة الخطأ الذي ارتكبه في الدخول مع الفرس كحليف، فالفرس قوم لا عهد لهم ولا أمان!

عندما خشي الخائن سيف بن سلطان على نفسه من لطيف خان، هرب الخائن نحو مدينة بركا العمانية الموالية له أيضاً، فيما كانت القوات الفارسية تتقدم نحو مسقط، وبمجرد وصولها إلى أسوار المدينة لم يتوقع أهالي مسقط الخيانة الفارسية، لأنهم كانوا يعتقدون أن الفرس موالين لحاكمهم سيف بن سلطان، وعلى حين غفله فوجئت مسقط بقذائف الفرس البريطانية والهولندية الصنع وهي تدرك حصون المدينة والقتلى يتساقطون والمدينة تحترق حتى تمكنوا من دخولها وإشاعة الفوضى والدمار فيها، وجز أعناق الأبرياء دون أدنى رحمة، وعلى اثر هذا الانتصار انطلق الأسطول الفارسي بقيادة تقي خان نحو مسقط لتثبيت الانتصار الفارسي على مسقط، ولكن سرعان ما دب الخلاف ما بين لطيف خان وتقي خان، وقام تقي خان باغتيال القائد لطيف خان، وقيل أن تقي دس السم في طعام لطيف.

عندما وصل سيف بن سلطان إلى مدينة بركا التقى هناك بإمام عُمان بلعرب بن حمير آل عرب (اليعربي) وأبدى أسفه على خيانته وعلى ما جلبه لشعبه من خراب وقتل وتدمير، وحينها أدرك فقط مدى بشاعة خيانته، ثم طلب من قبائل بني غافر الدعم العسكري لمحاربة الفرس، كما تنازل الإمام بلعرب بن حمير عن الإمامة ليصبح سيف بن سلطان إمام عُمان من جديد.

سبق لنا أن ذكرنا في الحلقة السابقة عن حيادية إمارة بني ياس النهيانية عن الحرب الدائرة بين إمامة عُمان والدولة الفارسية المجوسية، وآثروا عدم الدخول في صراع خارج حدودهم، ولكن عندما علموا أن الفرس قاموا بتلطيخ أيديهم بدماء الأبرياء من المستضعفين قرروا تقديم المساعدة للأشقاء، واستطاع سيف بن سلطان من توحيد جيوشه من جديد، وتشكيل عدداً كبيراً من الكتائب العسكرية بقيادة خيرة فرسان بني غافر، فيما كانت الحاميات العسكرية الإيرانية تتساقط في مختلف المدن العمانية التي سقطت سابقاً بيد الفرس، وتم قتل الآلاف منهم، ولكن الأجداد لم يفعلوا ما كان يفعله الفرس في الأسرى، فالأسير الفارسي تم معاملته على أنه أسير حرب ولكن الفرس كانوا يقتلون الأسرى، وتم تحرير كامل الأراضي العمانية من الفرس في العام 1739، ومن تم اسره تم بيعه في سوق الرقيق.

في العام التالي 1740 كانت إمارات الساحل، وتحديداً إمارة القواسم، تعد العدة للانتقام من الدولة الإيرانية على ما ارتكبوه في السنوات السابقة من جرائم في حق الإنسانية، وكان حاكم بلاد الفرس نادر شاه على علم أنه هالك لا محالة أمام انتقام إمارات الساحل، فطلب من جديد النجدة من بريطانيا وهولندا، فقامت الأخيرة بتزويد الأسطول الفارسي بالمزيد من السفن الأوروبية العسكرية المقاتلة والمتطورة، وكذلك شحنة مدافع بحرية حديثة، وكانت ألمانيا تعتبر من أفضل الدول في العالم القادرة على تصنيع أقوى المدافع في القرن الثامن عشر، ونظراً لحاجة الدولة الفارسية للسلاح الحديث لمواجهة إمارات الساحل، سهلّت بريطانيا وهولندا عملية توريد المدافع الألمانية إلى الفرس.

على الرغم من كافة الاستعدادات الفارسية والأوروبية لمواجهة رأس الخيمة، لم يكن الحلف الفارسي البريطاني الهولندي بذلك الند العسكري الذي يستطيع مواجهة أسطول إمارات الساحل، وكان الفرس يعتقدون أنهم سينتصرون، ولكن عندما التقى أسطول رأس الخيمة مع الفارسي يوم 12 من شهر نوفمبر عام 1740، كانت المدافع الأوروبية الحديثة عاجزة عن صد مدافع الأجداد العتيقة، وأطلق الأسطول الإماراتي سيلاً جارفاً من النيران وكانت السفن الإيرانية والهولندية تغرق في مياه الخليج العربي، وغرقت نحو 22 سفينة إيرانية وهولندية، وشعر قائد الأسطول الإيراني تقي خان أن لا طاقة له في اكمال المعركة، فأصدر أوامره لبقية السفن بالانسحاب نحو جزيرة “القسم” (أو الجسم حسب التسمية الفارسية)، لكن قائد أسطول رأس الخيمة مطر بن ارحمه بن مطر أصدر هو الآخر أوامره بملاحقة الأسطول الإيراني والهولندي إلى جزيرة القسم لإغراق المزيد من سفنهم، فانسحب الأسطول الإيراني مجدداً من جزيرة القسم نحو بلادهم، فيما عاد الأسطول الإماراتي بعد هذا الانتصار إلى رأس الخيمة ليستقبله الأهالي بأجمل الأهازيج والأفراح.

على اثر تلك الهزيمة الفارسية، كاد أميرهم نادر شاه أن يموت من القهر، خاصة بعد أن تمكن الأسطول الإماراتي من الاستيلاء على عدد لا بأس به من السفن الحربية الفارسية ومنها هولنديات متطورة، وأول ردة فعل من قبل أمير فارس نادر شاه قيامه بعزل قائد القوات البحرية الفارسية وتعيين قائد جديد اسمه سردار فردي خان، واستمر حاكم فارس نادر شاه في إرسال الخطابات إلى الدولة البريطانية والهولندية يسترجيهم دعمهم العسكري من خطر إمارات الساحل الذي تشكله على الدولة الفارسية.

الحلقة (3)

قامت القوات الإيرانية بإعادة ترتيب أسطولها الذي إنهار أمام أسطول القواسم، وتم اتخاذ ميناء بندر عباس مركزاً رئيساً لإدارة عمليات الأسطول الإيراني في العام 1741، ثم قاد الفرس حملة بحرية أخرى لمهاجمة جزيرة “قيس”، مع العلم أن جزيرة قيس كانت إحدى ملحقات إمارة بني ياس، ولكن الأسطول الفارسي مُني بخسارة أخرى وانسحب من الجزيرة. من جهة أخرى، كان أمير عُمان سيف بن سلطان اليعربي، غارقاً في شرب الخمر والفسق، خاصة بعد أن تحررت بلاده من الفرس، وعندما لاحظ العمانيين مدى فسقه قرروا الانقلاب عليه، ومن جديد اندلعت الحرب الأهلية العمانية عام 1741، وتم اختيار الأمير سلطان بن مرشد اليعربي إماماً جديداً على إمامة العمانية، ولكن سيف بن سلطان استمر في مقاومة حركة الانقلاب، واندلعت حرب أهلية مميتة في الدولة العمانية ذهب ضحيتها آلاف الناس من الجند والأبرياء في مدن عمانية عدة، بينما الأعداء يراقبون الوضع المتدهور الجديد في الدولة العمانية، وتعرضت قوات الأمير سيف بن سلطان للهزائم المتتالية ثم فرّ إلى مدينة خورفكان ومنها إلى مدينة رأس الخيمة.

لم يتعلم سيف بن سلطان الدرس السابق من خيانة الفرس له، وبدلاً من أن يتعض من ذلك الدرس، قام بإرسال وفد عُماني إلى حاكم الفرس نادر شاه مرة أخرى يطلب منه العون العسكري لمحاربة الدولة العمانية، مع تعهد سيف بن سلطان بأن تكون كامل أراضي إمارات الساحل وإمامة عُمان تحت الحماية المجوسية الإيرانية!

لم يصدق نادر شاه نفسه مرة أخرى وهو يتلقى هذه الكعكة الدسمة من الخائن سيف بن سلطان، وكان في غاية السعادة من عرض سيف بن سلطان، ووافق على الفور بالعرض متعهداً نجدة سيف بن سلطان، ثم أمر قادة أساطيله البحرية بسرعة التحضير لحرب جديدة، وتم إعداد جيش ضخم بلغ تعداد جنده 6000 جندي إيراني، وانطلقت الحملة العسكرية الثانية من ميناء بوشهر الإيراني وتحديداً في شهر أكتوبر من العام 1742، وسقطت مدينة رأس الخيمة من جديد بينما كان الخائن سيف بن سلطان سعيداً للغاية بهذا السقوط، ونزل القائد البحري الإيراني من سفينته ليستقبله الخائن سيف بن سلطان استقبال الأبطال!

بمجرد سقوط رأس الخيمة، بدأ الفرس ومعهم سيف بن سلطان في إعداد العدة وترتيب جيوشهم، خاصة بعد تلقي الدولة الفارسية المزيد من الدعم الأوروبي وتزويدهم بأحدث السفن الحربية الأوروبية، هذا بخلاف المدافع الأوروبية الثقيلة ذات القدرة التدميرية القوية التي تستطيع دكّ حصون الخصوم، وبعد أن تم تشكيل الفيالق العسكرية انطلق بعضها من رأس الخيمة نحو مدينة صحار، وفيالق أخرى انطلقت نحو مسقط ومطرح، وتعرضت مدينة صحار للخراب على أيدي الفرس وكذلك قرية قريات وتم استباحة أهلها من دون أدنى رحمة، فيما صمدت مدينة مسقط أمام العدوان، وأشتبك الجيش العماني مع الإيراني في معركة مميتة وحامية الوطيس، وكان كلا الجيشين يتبادلان قذائف المدفعية، وعندما أدرك الجيش الفارسي أنه على وشك الانهزام انسحب نحو مدينة روي واستباحها، ثم انطلق نحو مدينة بركا واستباحها هي الأخرى.

كان قائد الجيش العماني اسمه سيف بن حمير اليعربي وأثناء المعركة تعرض لطلقات نارية عدة، توفي على اثرها ما سبب نوع من الخلل لدى الجيش العماني، فقام الفرس بمهاجمة مسقط من جديد بقيادة قائد اسمه “كلب علي”! لكن الدفاعات المسقطية حالت دون تمكن الفرس من احتلالها، فتم حصار المدينة بأوامر من قائد أساطيل الفرس تقي خان، الذي تم إعادة المنصب إليه من جديد، بينما كان أمير عُمان سلطان بن مرشد في حالة من الارتباك بعد مقتل قائد جيشه سيف بن حمير اليعربي، فقام بقيادة الجيش العماني بنفسه، واستطاعت مدينة مطرح من صد الهجوم الفارسي، فقام الفرس بترك مطرح وتركيز كافة طاقاتهم بكل عزم وقوة على تدمير العاصمة العمانية مسقط، فكان الهجوم الفارسي كاسحاً بالفعل، وتمكنوا من صعود أسوار مسقط، وذلك عبر استخدام السلالم الكبيرة، فكانت مذبحة لا مثيل لها في تاريخ مدينة مسقط، حيث كانت المدينة غارقة في أنهار من الدماء والفرس لا يكفون عن هدر دم أي كائن حي يصادفونه، واستمرت المعارك في الشوارع وفي الأزقة بين العمانيين والفرس، وهرب إمام عُمان سلطان بن مرشد إلى مدينة الخابورة لإعادة تنظيم صفوف جيوشه من جديد وتطهير بلاده من الفرس.

وقف الخائن سيف بن سلطان مذهولاً أمام وحشية الفرس وهم يجزون أعناق أهله وناسه، ولم يكتفي الفرس بذلك، بل كانوا يتلذذون في التمثيل بالجثث وقطع الرؤوس ووضعها على الرماح، بينما النساء تنتحب والأطفال يهرولون عبثاً خوفاً من الفرس الذين لم يرحموا براءة الأطفال، وأطلقوا النيران عليهم أمام أمهاتهم.. وقف الخائن سيف بن سلطان أمام هول المنظر من جديد.. ينظر بأعين دامعة إلى بلاده التي خربها بنفسه وجلب العار على نفسه، بينما قائد الفرس تقي خان يضحك فرحاً بما لطخته يداه من دماء الأبرياء! حينها فقط أدرك ذلك الخائن كم هو شخص بغيض أمام أعين الجميع، فقرر ترك الحياة السياسية والانسحاب، وهرب من المجوس وتوجه نحو مدينة الحزم، ودخل إحدى قلاعها وبقي فيها إلى أن مات مقهوراً غير مأسوف عليه.

في العام 1744، استمر الفرس في حملتهم العسكرية ضد عُمان بقيادة كلب علي وإشراف تقي خان، وتوجه الجيش الفارسي نحو مدينة صحار، واستمرت المعارك التي بلغت من شدتها أن تناثرت الجثث من كلا الجيشين أثناء إطلاق قذائف المدفعية من كلا الجانبين، وكان الجيش العماني قد أُنهك كثيراً، خاصة أن الفرس كانوا يمتلكون أحدث الأسلحة الأوروبية، بينما الجيش العماني لا يزال يحارب بأسلحة عتيقة. حينها، أدرك إمام عُمان سلطان بن مرشد اليعربي أن حرب القذائف المدفعية غير متكافئة نظراً لتقدم وتطور المدفعية الإيرانية، وقرر الاستعانة بفرسان بادية الظاهرة من البدو الأشداء، ولبى البدو النداء العماني، واندفعوا نحو كتائب الجيوش الفارسية ليباغتوهم على حين غفلة، ويجزون أعناقهم، بينما الفرس عاجزين عن محاربة البدو الذين كانوا يتحركون بكل خفة ومهارة على ظهور الجياد العربية الأصيلة، وأجبروا الفرس على التقهقر، ولكن كان عدد فرسان البادية قليل بالمقارنة مع آلاف الجنود الفرس، هذا بالإضافة ضخامة الأسطول الفارسي الذي كان يدك مدينة صحار من البحر، بينما القذائف البرية تدك هي الأخرى المدينة من جهة البر، ولم يجد إمام عُمان حلاً سوى جر الجيش الفارسي ناحية الصحراء، لكسب أكبر قدر من مساعدة البدو، ولم تهدأ أصوات النيران إطلاقاً لا في النهار أو الليل، والغريب أن الفرس مصممين على تكملة الحرب مهما بلغت الخسائر من كلا الجانبين، ومع إزدياد قدوم فرسان بادية الظاهرة زادة حدة المعارك وقُتل قائد الجيش الفارسي كلب علي، الأمر الذي زاد من معنوية الجيش العماني وأمتطى إمام عُمان سلطان بن مرشد جواده ورفع سيفه ليرفع من معنويات جنوده من ورائه.

دخل سلطان بن مرشد أرض المعركة وهو يهلل من على حصانه “الله أكبر”، يضرب الجنود الفرس بسيفه حتى تكاثر عليه الفرس مشكلين حلقة دائرية لعزله عن بقية جنده وأطلقوا عليه النيران فسقط عن جواده ثم تكاثرت عليه سيوف الفرس، لكنه وقف وقاتلهم، واندفع بقية العمانيين لنجدة مولاهم، وكان سلطان بن مرشد بالكاد قادراً على حمل نفسه، وأمتطى جواده من جديد ودخل حصنه وهو مثقل بجراحه ولفظ أنفاسه الأخيرة أمام أهله وذلك يوم 20 يونيو من العام 1744، وكان سلطان بن مرشد اليعربي يعتبر آخر أمراء الدولة العمانية من اليعاربة، وبذلك خسر الفرس قائدهم كلب علي وخسر العمانيين مولاهم سلطان بن مرشد اليعربي، وعلى الرغم من مقتل إمام عُمان بقي الفرس غير قادرين على اقتحام مدينة صحار التي بلغ عدد القتلى العمانيين فيها نحو 3000 قتيل.

كان أحد قادة الجيوش العمانية اسمه أحمد بن سعيد البوسعيدي الذي على يديه تأسست الدولة البوسعيدية عام 1744، والتي لا تزال تحكم الدولة العمانية حتى اليوم، حيث بمقتل سلطان بن مرشد اليعربي ووفاة الخائن سيف بن سلطان اليعربي في حصنه، وكذلك مقتل مجمل أفراد الأسرة اليعربية، لم يبقى أحد من الاسرة اليعربية يحكم عُمان، فقام قائد الجيش العماني أحمد بن سعيد البوسعيدي بتولي الحكم بصورة مؤقته، وشعر الفرس بخيبة أمل بعد وفاة الخائن سيف بن سلطان وقرروا التفاوض مع أحمد بن سعيد على الانسحاب. وبعد هذا العام انقسمت الدولة العمانية إلى دولتين إحداهما تحت حكم أحمد بن سعيد البوسعيدي وعاصمته صحار، والأخرى تحت حكم بلعرب بن حمير اليعربي وعاصمته الرستاق.

اتفق أحمد بن سعيد مع تقي خان على انسحاب القوات الإيرانية من صحار، شريطة بقاء حامية عسكرية إيرانية في مدينة مسقط وأن يدفع أحمد بن سعيد جزية سنوية إلى الفرس. وعلى اثر هذا الاتفاق غادر الفرس الأراضي العمانية في العام 1745، مع بقاء حاميتهم العسكرية في مسقط، وبعد مرور أشهر عدة لاحظت الدولة الفارسية عدم جدوى بقاء حاميتهم في مسقط، خاصة مع دخولهم في حرب أخرى مع الدولة التركية، ووجدت أنه من الأفضل استعادة قواتهم من عُمان واستغلالها في حربهم ضد الأتراك. حينها، فكر أحمد بن سعيد البوسعيدي في قتل جميع أفراد الحامية الإيرانية، واعلمهم أنه يود اكرامهم وإقامة مائدة طعام على شرفهم في قلعة بركا قبل مغادرتهم إلى بلادهم عبر ميناء مدينة بركا العمانية. وبمجرد دخول جميع أفراد الحامية الفارسية قلعة بركان انهالت النيران والسيوف على رؤوس الفرس، وبقي منهم نحو 200 فرد، بكوا أمام أحمد بن سعيد أن يرحمهم من القتل، فأعفى عنهم أحمد بن سعيد وأمر بطردهم إلى بلادهم، وأثناء ركوبهم البحر أراد بعض أفراد الشعب العماني الانتقام منهم فقاموا بحرق سفينة الفرس فمات أغلبهم ومن بقي على قيد الحياة مات لاحقاً غرقاً.

وبهذا، انتهى الاحتلال الإيراني للدولة العمانية في العام 1745، ولكن هل تعلّم نادر شاه من الدرس؟!

الحلقة (4)

سبق لنا أن ذكرنا أن الصراع الحزبي في إمارات الساحل وإمامة عُمان في القرن الثامن عشر تمثل في حزبين سياسيين وهما الحزب الغافري والحزب الهنائي، وبعد هزيمة الحملات الإيرانية على إمارات الساحل وإمامة عُمان عام 1745، انشقت الدولة العمانية إلى دولتين إحداهما بقت تحت حكم آل عرب (اليعربي) والأخرى لآل بوسعيد، أما في إمارات الساحل والتي من الأساس كانت تتكون من إماراتين وهما إمارة بني ياس وإمارة القواسم، فقد تأثرا هما كذلك بالانشقاق العماني، وفي العام الذي يليه أي عام 1746 دخلت إمارة بني ياس ضمن حلف بنو هناءة وساندوا إمامة أحمد بن سعيد البوسعيدي، أما إمارة القواسم فقد دخلت ضمن الحلف الغافري وساندوا بلعرب بن حمير اليعربي.

اختلط الحابل بالنابل ودارت الحروب الأهلية من جديد في إمارات الساحل وإمامة عُمان وأصبح الحلفين الغافري والهنائي واتباعهم من كلا الحلفين في صراع عسكري مستمر، هذا بخلاف التصفيات والاغتيالات التي نالت العديد من أقطاب كلا الحلفين، ولا نودّ هنا الدخول في تفاصيل كثيرة عن الصراعات الداخلية في إمارات الساحل وإمامة عُمان لأن الموضوع الأساسي هو الصراع التاريخي مع الدولة الإيرانية. لكن من الجدير بالذكر أن الدولة اليعربية قد تعرضت للسقوط من جديد من قبل أحمد بن سعيد البوسعيدي، وذلك بسبب العون العسكري الكبير الذي قدمته إمارة بني ياس النهيانية (الحزب الهنائي) لتعزيز حكم آل بوسعيد في الدولة العمانية، لكن إمارة القواسم (الحزب الغافري) لم ترضى بتلك الهزيمة وأعلنت الحرب ضد الدولة العمانية. واستمرت الحروب الطاحنة لسنين عديدة بين إمارة القواسم وآل بوسعيد في عُمان، خسرت خلالهما كلا البلدين الكثير من الأرواح. كما أن ظهور الوهابيين في بلاد نجد، شكّل تهديداً على إمارة بني ياس، فكان لابد لبني ياس تدعيم قوتهم بحلفاء أقوياء، فكان أحمد بن سعيد البوسعيدي أقوى حليف.

في العام 1748 تعرض حاكم بلاد فارس نادر شاه للاغتيال بسبب حركة المعارضة الشديدة التي تعرض لها على اثر هزائمه المستمرة مع خصومه سواء مع إمارات الساحل أو عُمان أو حتى الدولة التركية في العراق أو الأفغانية وأخيراً مع الهند وكأنه يريد أن يحارب جميع دول المنطقة! وقد أنهك ذلك نادر شاه بلاده بصراعاته المستمرة ورغبته في الدخول في حروب لا نهاية لها مع جميع جيرانه، وفي الأخير تم اغتياله على يد ابن أخيه عادل قولي لإراحة الشعب الإيراني من المغامرات المجنونة لنادر شاه، مع العلم أن ابن نادر شاه حاول مسبقاً التآمر على ابيه واغتياله لكن الأب اكتشف مؤامرة الابن رضا نادر شاه، فقام بسجنه وسمل عينيه.

أصبح الحاكم الجديد للدولة الفارسية هو عادل قولي شاه، ولكنه لم يكن بتلك الشخصية القيادية القادرة على السيطرة على بلاد فارس الكبيرة، بل أن مقاطعات إيرانية عديدة رفضت الاعتراف بالشاه الجديد وقاموا بتأسيس كيانات خاصة بهم، والغريب أن الدويلات الجديدة التي نتجت عن تمزق الدولة الإيرانية دخلت نفسها في حروب داخلية مع بعضها البعض، بينما الحاكم الجديد عادل شاه عاجز عن إعادة بلاده إلى رشدها، الأمر الذي دفع بالفرس إلى عزل عادل قولي شاه واختيار بدلاً عنه أحد القادة يُدعى كريم خان زندي عام 1748.

لم يتقبل حاكم مقاطعة بندر عباس الإيرانية “مُلا علي شاه” الحاكم الجديد على الدولة الفارسية كريم خان زندي، رافضاً الاعتراف به حاكماً على بلاد الفرس، وأعلن الانفصال عن الدولة وتأسيس كيان خاص به تحت مسمى دولة بندر عباس عام 1749، فقرر حاكم بلاد الفرس الجديد كريم خان زندي معاقبة ملا علي شاه. حينها، شعر الأخير بالخطر، فقام بمخاطبة إمارة القواسم يطلب النجدة من أمير القواسم الطاعن في السن الشيخ مطر بن ارحمه القاسمي، كوّن مدينة لنجة القاسمية قريبة من بندر عباس ولدى القواسم الأساطيل البحرية القادرة على مقارعة أساطيل الفرس، ووافق الشيخ مطر على طلب ملا علي شاه وارسل القطع الحربية العسكرية لحماية بندر عباس. ومن الجدير بالذكر هنا أيضاً، أن الشيخ مطر بن ارحمه قد شعر بالتعب من الحروب التي خاضها على مدى عشرات السنين السابقة ضد الفرس لتثبيت كيانه الكبير على ضفتي الخليج العربي، وقرر في العام 1749 التنازل عن العرش لصالح ابنه راشد، وذلك لبلوغ الشيخ مطر من السن عتياً.

شعر حاكم إمارة القواسم الجديد راشد بن مطر القاسمي بالضجر من الحروب المستمرة والغير مُستفاد منها مع آل بوسعيد في عُمان، وقرر فتح جبهة جديدة ضد بلاد الفرس ليعاقبهم وينتقم منهم على حملاتهم التي قاموا بها ضد بلاده، خاصة وأن مقتل الحاكم السابق نادر شاه قد أدى إلى إضعاف الدولة الفارسية، فكانت تلك الفترة الأفضل لمهاجمة الفرس وهم على ضعف، وعقد الشيخ راشد القاسمي اتفاق تعاون مع حاكم بندر عباس ملا علي شاه لمحاربة الدولة الفارسية عام 1752، وأدى هذا التعاون أيضاً في العام التالي 1753 إلى ازدياد الهجرة العربية من إمارات الساحل إلى الساحل الفارسي لتدعيم الكيانات العربية التابعة لإمارة القواسم في بلاد الفرس، وكذلك مختلف الجزر المتواجدة في شمال إمارات الساحل خاصة جزيرة القسم (جسم) وجزيرة قيس، وذلك رغبة من الشيخ راشد بن مطر القاسمي على تعزيز الهوية العربية في تلك المناطق، كما شهدت إمارة القواسم تحسناً ملحوظاً في مجال صناعة السفن، وكان الشيخ راشد مصمماً على إعادة مجد آبائه فأصدر أوامره بتعزيز الأسطول القاسمي بالمزيد من السفن العسكرية المعززة بأحدث المدافع.

على الرغم من أن سكان جزيرة القسم هم في الأساس من العرب، يحكمها بنو معين (المعيني) إلا أنهم رفضوا أن يكونوا تحت حكم إمارة القواسم، فقام على اثر هذا الرفض الشيخ راشد بن مطر بإرسال أسطوله لتخويف سكانها فقط، رغم أن سكان الجزيرة كانوا على استعداد تام لمحاربة القواسم، واكتفي الشيخ راشد القاسمي بمحاصرة الجزيرة مدة 6 أشهر، أذعن بعدها حاكم الجزيرة الشيخ عبدالله المعيني لمطالب الشيخ راشد بن مطر، بل أن الأخير قام بمصالحته وطيب خاطره وذلك في العام 1756. ولكن المعيني لم يكن متقبلاً لحكم القواسم فطلب من حاكم عُمان، العدو اللدود للقواسم، أحمد بن سعيد البوسعيد العون ضد راشد بن مطر القاسمي، فاشتعلت الحرب من جديد بين القواسم والعمانيين عام 1758 حول مضيق هرمز.

في ظل التخبط المستمر الذي تعيشه الدولة الفارسية وفشل حاكمها كريم خان زندي، اندلعت في بلاد الفرس حركة معارضة شديدة وصلت إلى حد استخدام السلاح في وجه رجال السلطة، وعُرفت حركة المعارضة في بلاد الفرس بالحركة “الزندية”، لكن الحاكم الجديد كان عاجزاً أيضاً عن توحيد الكيانات التي انفصلت عن الوطن الأم. وإحدى تلك الدويلات المنشقة هي ولاية “لار” التي دخلت في حرب هي الأخرى ضد ولاية بندر عباس وتمكنت من هزيمتها عام 1760، وتم سجن حاكم بندر عباس، وعندما علم حاكم القواسم الشيخ راشد بن مطر بذلك، أمر بتحريك أسطوله نحو بندر عباس، وفوجيء القواسم ببنو معين في جزيرة القسم الذين وقفوا مع الفرس ضد القواسم، وفتحوا نيران مدافعهم ضد أسطول القواسم لمنعهم من النزول في بندر عباس، وكان الشيخ راشد بن مطر يقود بنفسه الأسطول القاسمي، وعندما أيقن خيانة عبدالله المعيني للاتفاق المبرم بينهما أصدر أوامره بإلقاء القذائف من على سفن “الرحماني” المقاتلة، فكانت قذائف الأسطول القاسمي تدك الحصون العسكرية في جزيرة القسم دكاً، وتدمرت الحصون خلال دقائق وتم إنزال كتائب عسكرية من القوات القاسمية في الجزيرة فيما فرّ حاكمها إلى هرمز ومنها إلى عُمان ليطلب النجدة من آل بوسعيد. وعلى اثر الانتصار القاسمي خاف الفرس وقاموا بإطلاق سراح حاكم بندر عباس ملا علي شاه الذي انطلق على الفور نحو سفينة الشيخ راشد بن مطر.

على الرغم من إطلاق الفرس لسراح مُلا علي شاه إلا أن ذلك لم يثنيه عن مهاجمة بندر عباس، فكانت السفن القاسمية تطلق نيران القذائف الثقيلة على حصون بندر عباس، والدفاعات الإيرانية عاجزة عن صد تلك القذائف أو الرد بمثلها، مع العلم أن عدد المقاتلين القاسميين كانوا نحو 1000 مقاتل فقط، ولكنهم استطاعوا وفي يوم واحد أن يهينوا دولة بضخامة بلاد فارس. وبينما الأسطول القاسمي كان مشغولاً بالحرب ضد الفرس في بندر عباس، قام الأسطول العماني بمهاجمة الكتائب القاسمية في جزيرة القسم، الأمر الذي دفع بالشيخ راشد بن مطر بالانسحاب من بندر عباس والتوجه نحو القسم لمحاربة الأسطول العماني، وذلك يوم 24 من شهر يونيو عام 1760. لكن حاكم القواسم كان المهم عنده اسقاط بندر عباس، ولم يكن راغباً في الدخول في مناوشات مع العمانيين. من جهته، كان حاكم الفرس الجديد كريم خان زندي خائفاً من قوة الأسطول القاسمي والخطر الذي يشكله على بلاده في ظل عدم امتلاكه لأسطول يضاهي قوة الأسطول القاسمي، فقام عام 1762 بفتح قنوات اتصال على دول أوروبية عدة كبريطانيا وهولندا وفرنسا، يعرض عليهم افتتاح المكاتب التجارية لهم مقابل مساعدتهم العسكرية ضد إمارات الساحل، كما أن الوجود العربي وكثرة الجاليات العربية في جنوب شرق إيران سبب الكثير من القلق له، على اعتبار أنهم خونة وسيقفون مع العرب ضد الفرس، فكان لا بد من طردهم عبر الضييق عليهم ومعاملتهم بدونية في بلاد الفرس.

كان الشيخ راشد بن مطر على وشك احتلال مدينة بندر عباس لولا تدخل الأسطول العماني الذي حال دون انتصار الأسطول القاسمي على بندر عباس. حينها، استعمل القاسمي لغة العقل وقرر التصالح مع الجميع، فيما عاد الشيخ عبدالله المعيني إلى جزيرة القسم يحكمها من جديد بمباركة بلاد الفرس التي اعتبرت المعيني من رعاياها، وعاد الأسطول القاسمي إلى رأس الخيمة عام 1763، بعد أن تم الاتفاق على الصلح بحيث يتم تقسيم موارد جزيرة القسم على ثلاثة حصص تذهب إلى إمارة القواسم وآل معين ومُلا علي شاه في بندر عباس، مقابل أن يفك الشيخ راشد بن مطر حصاره عن جزيرة القسم، مع السماح للسفن القاسمية بالرسو في جزيرة القسم. وكذلك دخل أمير القواسم راشد بن مطر في معاهدة صلح مع أمير عُمان أحمد بن سعيد في العام نفسه 1763.

عندما علم حاكم الفرس كريم خان زندي بالاتفاق الذي تم بين حاكم جزيرة القسم الموالي لبلاد الفرس عبدالله المعيني مع حاكم إمارة القواسم الشيخ راشد بن مطر، قام كريم خان بمعاتبة المعيني على تلك الاتفاقية وطالبه بإلغائها من طرفه. وبالفعل، هذا ما قام به المعيني للمرة الثانية، وألغى ثاني اتفاق له مع إمارة القواسم في العام 1764 إرضاءاً لسيده كريم خان زندي.

مع الدعم البريطاني والفرنسي والهولندي للدولة الإيرانية، بدأ حاكمها كريم خان زندي بقرع طبول الحرب من جديد، وقام بمضايقة السكان العرب في جنوب شرق إيران، ومضايقة السفن التابعة لإمارات الساحل في الخليج العربي في رسالة مفادها “هل من مبارز يا إمارات الساحل؟”.

الحلقة (5)

آثرت إمارة القواسم في العام 1765 والسنوات القليلة اللاحقة استخدام لغة العقل وعدم الانفعال تجاه الاستفزازات الإيرانية، كي لا يستغلها الفرس من جديد للخروج بأي ذريعة للدخول في حروب جديدة انهكت إمارات الساحل وإمامة عُمان، ولم تنهك الفرس!

على الرغم من مرور سنوات قليلة من الهدوء في إمارات الساحل وإمامة عُمان وبلاد فارس، إلا أن الحرب الأهلية سرعان ما اندلعت من جديد عام 1770، وطبعاً الفرس يفرحون كثيراً على حدوث أي حرب أهلية في إمارات الساحل أو عُمان. وكما سبق لنا أن ذكرنا الحلفين السياسيين المسيطرين على إمارات الساحل وإمامة عٌمان هما الحلف الهنائي والحلف الغافري يتناحرون مع بعضهم البعض، وكانت إمارة القواسم تدعم الحلف الغافري بينما تدعم إمارة بني ياس الحلف الهنائي، وشهد العام 1771 المزيد والمزيد من الحروب الداخلية، لم يفز فيها أحد! والمضحك في هذا التاريخ أن بعض الأطراف تتناحر ثم يتصالحون! وكأن شيئاً لم يحدث، لكن الحقيقة أن إمام عُمان أحمد بن سعيد البوسعيدي كان بحاجة إلى حليف قوي مثل الشيخ راشد بن مطر القاسمي أمير إمارة القواسم في ظل التهديدات الإيرانية، ففي العام 1772 قام حاكم بلاد الفرس شاه كريم خان الزندي بمطالبة أحمد بن سعيد البوسعيدي بالجزية السنوية التي كان من المفترض أن تدفعها إمامة عُمان منذ العام 1745 نظير الانسحاب الفارسي من عُمان، وكذلك طالب الفرس من إمام عُمان بدفع كافة المتأخرات العمانية من الجزية على مدى الـ 27 عاماً الماضية!

شعر أحمد بن سعيد البوسعيدي بالخطر الفارسي المرتقب، ولكن وعلى الرغم من حالة الصراع بين إمارة القواسم وإمامة عُمان، إلا أنهم سرعان ما يتحدون لمواجهة العدو الأكبر بلاد فارس، وعندما اطمئن أمير عُمان بدعم إمارات الساحل (إمارة القواسم وإمارة بني ياس)، ارسل خطاباً إلى كريم خان زندي جاء فيه بما معناه “ليس لدي مال لك عندي، لكن لدي من المدافع والقنابل ما يكفي لتدمير بلادك”.

كان جواب إمام عُمان أحمد بن سعيد بمثابة إعلان الحرب جديد على بلاد الفرس، وفي الجهة المقابلة من الخليج العربي كان كريم خان في غاية السعادة لأنه حصل على مبغاه والذريعة التي كان يبحث عنها للدخول في حروب جديدة مع إمارات الساحل وإمامة عُمان، وأصدر أوامره على الفور بإعلان الحرب، واندفع أسطوله نحو مدينة لنجة (عاصمة إمارة القواسم في بر فارس) في جيش مهيب بلغ تعداد جنده أكثر من 6 آلاف جندي.

لم تكن مدينة لنجة القاسمية على علم بالتجهيزات الفارسية، وبمجرد أن سمع والي لنجة القاسمي الشيخ سعيد بن قضيب القاسمي القرع المخيف والمهيب لطبول الحرب الإيرانية، ارسل بن قضيب على فور طلب استغاثة عاجل إلى أمير إمارة القواسم في عاصمتها رأس الخيمة الشيخ راشد بن مطر القاسمي، فقرر بن مطر تجهيز حملة بحرية ضخمة تحت قيادته الشخصية تضاهي الحملة الإيرانية، كما قرر أيضاً إمام عُمان السيد أحمد بن سعيد البوسعيدي تجهيز حملة بحرية أخرى لمساندة القوات القاسمية. من جهتها، استمرت الدولة الإيرانية في حشد قواتها على مدى أشهر عدة حتى العام 1773، وكذلك كانت إمارات الساحل وإمامة عُمان تحشد قواتها استعداداً للموقعة التاريخية المرتقبة. وقام كل من الشيخ راشد بن مطر والسيد أحمد بن سعيد بوضع الخطط العسكرية، واتفقا على أن تقوم القوات العمانية بفك حصار مدينة لنجة وتدمير الأسطول الإيراني، فيما يقوم الأسطول القاسمي بسحق مدينة بندر عباس والقوات الإيرانية المرابطة هناك.

توجّه الأسطول العماني نحو مدينة لنجة وفوجيء بضخامة الأسطول الإيراني ومدفعيتها المتطورة بالمقارنة مع دفاعات إمارات الساحل أو إمامة عُمان، وفتحت المدافع العمانية نيرانها نحو الأعداء واستطاعت إغراق عدد من السفن الفارسية، ولكن الفرس كانوا على استعداد أكبر، حيث قاموا بنصب كمائن ودفاعات أرضية قوية في بعض الجزر الصغيرة القريبة من لنجة، فكانت الدفاعات الأرضية الإيرانية تطلق قذائفها الثقيلة نحو السفن العمانية وأصابتها بإصابات بليغة، جعلت المعركة تميل كفتها لصالح الفرس، ولكن سرعان ما تدارك الأسطول العماني ذلك الكمين وأمر  قائده بتوجيه القذائف نحو الدفاعات الأرضية الإيرانية، واستمر الأسطول العماني في توجيه قذائف شديدة الحرق، من شدتها اشعلت النيران في الجزر التي كان يحتمي فيها الجنود الفرس واحترقوا فيها، وعندما انتهى الأسطول العماني من تدمير كافة الدفاعات الأرضية لجيوش الفرس توجّه من جديد نحو السفن الفارسية المرابطة حول مدينة لنجة القاسمية ممطراً إياها بوابل من النيران التي فتكت بالفرس وسفنها، وفي نهاية المعركة استسلم الجنود الفرس للقوات العمانية.

في بندر عباس كان الأسطول القاسمي الضخم بقيادة أمير القواسم الشيخ راشد بن مطر القاسمي بنفسه يسحق أية سفينة إيرانية يراها تقترب من أسطوله، ولم يتجرأ الأسطول الفارسي على مواجهة أمير القواسم المخيف، وفضلوا الإبقاء على حياتهم بدلاً من الدخول في حرب هم يعرفونها جيداً أنها خاسرة بالنسبة لهم، وهربوا! والغريب في الأمر أن بلاد الفرس وحاكمها كريم خان زندي كان من المفترض أن يدرس خصومه جيداً ويعرف حجم قواتهم قبل أن يقرر الدخول في حرب خاسرة!

أدرك حينها كريم خان زندي أنه من الغباء الدخول في حروب مع إمارات الساحل أو إمامة عُمان نظراً لإمتلاك تلك الدولتين الإمكانيات العسكرية التي تمكنها من مواجهة بلاد فارس، فقرر في العام 1774 توجيه قواته نحو العراق بدلاً من إمارات الساحل أو إمامة عُمان، كوّن الدولة العثمانية مشغولة في صراعاتها مع بعض الدول الأوروبية، أما العراق فكان في وضع مزري مع عدم وجود أية قوات عثمانية للدفاع عنه، وكانت العراق تحت حكم واليٍ عثماني اسمه عمر باشا، ولم يكن قادراً على إدارة بلد متعدد الطوائف والملل مثل العراق، فكان يستخدم القوة والرهبة لإخافة السكان ويتعامل معهم مثل الحيوانات، كما أساء التعامل مع البحارة والتجار الإيرانيين، في خطوة خاطئة كان ينتظرها كريم خان زندي لمهاجمة العراق، وهذا ما قام به لاحقاً، وتوجهت القوات الإيرانية لاحتلال العراق في جيش قوامه 50 ألف جندي، وذلك في العام 1775.

من سلبيات الدولة العثمانية أنها لم توفر أية حماية عسكرية تذكر لمدينة البصرة التجارية الحيوية، ولم تكن هناك سوى سفينتين عثمانيتين تم سحقهما بسهولة من قبل الفرس، وعندما وجد العراقيون أنفسهم أنهم خارج الحماية العثمانية شنت بعض العشائر العراقية السنية مقاومة شرسة مع الفرس، ولكن الفرس وبسفنهم العملاقة استطاعوا شلّ حركة شط العرب وسحق أية مقاومة لاقوها بكل سهولة بسبب انعدام الدعم العسكري من قبل الدولة العثمانية، هذا بالإضافة إلى عدم وجود أية قوة عسكرية نظامية قادرة على مواجهة الفرس، والذين قاموا فيما بعد بحصار شط العرب ومدينة البصرة.

كان محافظ مدينة البصرة سليمان آغا على علم بالهزيمة القوية التي تعرض لها الأسطول الفارسي من قبل الأسطول العماني، كما أنه كان مدركاً أن تركيا غير قادرة على توفير أدنى حماية له، فقام الآغا بإرسال نداء استغاثة إلى إمام عُمان السيد أحمد بن سعيد البوسعيدي، ولبى الإمام النداء على الفور وأمر بإرسال أسطول عماني ضخم قوامه 80 سفينة مدمرة، بعضها حمولته تتسع لعدد 80 مدفعاً ضخماً، وعندما وصل الأسطول العماني بقيادة قائد القوات البحرية العمانية ماجد بن سعيد الحارثي إلى شط العرب فتح نيرانه نحو القوات الإيرانية التي كانت تتساقط مثل تساقط ألواح البولينغ عندما تضربها الكرة، وعندما دخل الأسطول العماني البصرة استقبله أهلها بالترحاب والبكاء على هذا الانتصار الكبير، فيما كانت السفن الإيرانية تحترق، أما السفن التي لم تحترق فقد غرقت في البحر فيما كانت آلاف الجثث من جثث الفرس تطفو على البحر، وذلك في شهر سبتمبر من العام 1775. وقررت تركيا مكافأة إمامة عُمان على تلك المساعدة ومنحها مكافأة سنوية.

في العام التالي 1776، غادر الأسطول العماني مدينة البصرة وشط العرب ليعود إلى بلاده بعد أن أنهى مهمته، كما حرص الأسطول العماني قبل مغادرته على تدريب العراقيين بعض المهارات القتالية، وبمجرد أن غادر الأسطول العماني عاد الفرس من جديد لمهاجمة العراق واحتلال البصرة، وذلك لعدم تعلم تركيا من الهزيمة السابقة! فكان من المفروض أن تقوم تركيا بتدعيم البصرة عسكرياً وتوفير كافة الاحتياجات الدفاعية، ولكنها تركت البصرة على حالها وكأنها توجّه دعوة مفتوحة للفرس باحتلالها، وهذا ما حصل.

في عاصمة إمارة القواسم رأس الخيمة كان أميرها الشيخ راشد بن مطر القاسمي قد أصبح كبيراً في السن، ولم يعد قادراً على قيادة أساطيله العسكرية بنفسه، يذكر أنه يقود الأساطيل القاسمية منذ أن كان شاباً تحت إمرة والده الحاكم السابق الشيخ مطر بن ارحمه القاسمي، وقرر الشيخ راشد بن مطر التنحي عن الحكم بسبب اعتلال صحته التي انهكتها الحروب مع الدولة الإيرانية، وقرر تنصيب ابنه صقر حاكما جديداً على إمارة القواسم عام 1777، ولكن الغريب في الأمر أن صقر يعتبر أصغر أبناء الشيخ راشد، ولا يُعرف لماذا فضلّ تسليم مقاليد الحكم لأصغر ابنائه!

انتهج الحاكم الجديد لإمارة القواسم الشيخ صقر بن راشد القاسمي سياسة والده القائمة على بناء قوة عسكرية مهيبة تفرض احترامها مع جميع دول المنطقة، كما قام بتعزيز علاقاته مع بقية الدول المجاورة، ولكن شاءت الظروف أن تعكرت العلاقات من جديد بين إمارة القواسم والدولة العمانية لأسباب قد تصل إلى التفاهة! من جهتها كانت المملكة المتحدة تراقب القوة العسكرية لإمارة القواسم وتدرس تدميرها لما تشكله من تهديد على المصالح التجارية للمملكة المتحدة في الخليج العربي، وكانت الدولة البريطانية تتعمد استفزاز إمارة القواسم بدخول المياه الإقليمية التابعة للإمارة من دون استئذان، الأمر الذي دفع بأمير القواسم باستحداث قوات لخفر السواحل عام 1778، وتعتبر إمارة القواسم من أقدم دول المنطقة التي انشأت ما يعرف بمفهوم اليوم “خفر السواحل”، واعترضت تلك القوة العديد من السفن البريطانية التجارية واحتجزتها لانتهاكها المياه الإقليمية لإمارة القواسم، فثار المقيم السياسي البريطاني جون بيموت في مدينة بوشهر، مطالباً الشيخ صقر بن راشد بإعادة السفن البريطانية ولكن أمير القواسم رفض ما لم تقوم الحكومة البريطانية بدفع غرامة لانتهاك تلك السفن مياهه الإقليمية.

ما قام به الشيخ صقر بن راشد القاسمي حاكم إمارة القواسم في إمارات الساحل يُعد حقاً مشروعاً له، فمن غير المعقول أن تقوم سفن الدول الأخرى بانتهاك مياه الآخرين بلا استئذان أو دفع رسم عبور! ونجح الشيخ صقر فعلا في تعزيز خزانته بمورد مالي مشروع، ولكن الدولة البريطانية لم تعترف بالحقوق المشروعة لدول المنطقة في فرض رسوم العبور فأطلقت لقباً جازفاً وهو “ساحل القراصنة” على إمارات الساحل.

الحلقة (6)

أنصح القراء الأعزاء ممن يرغبون في قراءة المزيد عن أسطورة “ساحل القراصنة” بقراءة كتاب باللغة الإنجليزية لسمو الشيخ د.سلطان بن محمد القاسمي بعنوان “The Myth of Arab Piracy in the Gulf”، ردّ فيه سموه على جميع الافتراءات والتأويلات التي قام بعض الساسة البريطانيين بتزويرها في حق “إمارات الساحل”، أما من يرغب في قراءة المزيد من الافتراء البريطاني في حق سواحل الإمارات فأنصحه بقراءة كتاب بعنوان “The Pirates Coast” لمؤلفه المقيم السياسي البريطاني في البحرين في بدايات القرن الماضي تشارلز بلجريف.

شهد العام 1779 وفاة حاكم بلاد الفرس كريم خان زندي الذي على يديه تأسست الدولة الزندية في بلاد فارس، وتم بعد وفاة الحاكم مباشرة تنصيب الابن حاكماً، ولكن ذلك الابن كان ضعيفاً، فشهدت الدولة صراعات داخلية جديدة، ونشأت حركة معارضة ضد الدولة الزندية، وكانت بلاد فارس على وشك الدخول في حرب أهلية بين الحاكم الجديد والمناوئيين له من عشائر القاجار. من جهته، استغل أمير القواسم الشيخ صقر بن راشد القاسمي الوضع المتأزم في بلاد فارس وقرر تثبيت حكمه في المزيد من جزر الخليج العربي المقابلة لسواحل دولة الإمارات اليوم، هذا بالإضافة إلى الأراضي الواسعة الواقعة تحت سلطة إمارة القواسم في بر فارس، فكانت القوات القاسمية تستغل حالة الفوضى الداخلية في فارس وتدك وتدمر جميع الحاميات والقواعد الإيرانية، وأصبح جنوب شرق إيران اليوم أراضٍ تابعة لإمارة القواسم، وعجزت الدولة الإيرانية عن القيام بأي عمل عسكري مقابل لاستعادة تلك الأراضي التي كسبتها إمارة القواسم.

لم تكن الدولة الفارسية وحدها التي دخلت في صراعات داخلية من أجل منصب الحاكم، بل شاءت الظروف أن يعود الوضع المتأزم في إمارات الساحل وإمامة عُمان، وهذا ما كانت تسعى إليه فارس، فقد شهدت إمارة القواسم مشاكل داخلية بين حاكمها وزعماء بعض عشائر الحزب الغافري، وكذلك نشأت مؤامرات جديدة للإطاحة بإمام عُمان أحمد بن سعيد من قبل بعض ابنائه بالتعاون مع بعض أفراد الأسرة اليعربية المتبقية والراغبة في استعادة عرش آبائها بزعامة الثائر اليعربي الجديد محمد بن حمير آل عرب (اليعربي) الذي كسب دعماً وموازرة من بعض شيوخ قبائل إمارات الساحل، وذلك في العام 1780، ثم قام الثائر اليعربي وحلفائه من الحزب الغافري بحشد جيوشه، لكن إمام عُمان أحمد بن سعيد الذي طعن في السن طلب منهم التهدئة واستخدام لغة الحوار والتفاهم بدلاً من استخدام السيف والبندقية.

لم تنفع محاولات إمام عُمان في استخدام لغة الحوار، وأعلن أبناء الإمام العصيان المسلح ضد والدهم، وطلبوا دعم أمير القواسم الشيخ صقر بن راشد في حربهم ضد ابيهم، كوّن إمارة القواسم وإمامة عُمان في خلافات دائمة وحروب لا حصر لها، وعلى الرغم من الحشود الكبيرة التي استطاعت الحركة اليعربية من حشدها لمحاربة الإمام إلا أن أحمد بن سعيد البوسعيدي وجيشه القوي الذي عضده بالمزيد من المقاتلين الأفارقة الأقوياء، وكذلك عدد كبير من المقاتلين البلوش، استطاع من هزيمة حركة العصيان المسلح، الأمر الذي دفع بأمير القواسم بإرسال قطعات جيشه البري والذي بلغ تعداده 30 ألف مقاتل من إمارة القواسم، ولكن الجيش القاسمي لم يرتكب أية جريمة في حق الإنسانية، حتى أنه لم يلتقي بالجيش العماني، بل كان هدفه الترويع فقط لإنهاء حالة الحرب الأهلية في عُمان، واتفقت جميع الأطراف على إنهاء الصراع الداخلي باستسلام أبناء إمام عُمان المناوئين لأبيهم ونفيهم إلى رأس الخيمة في ضيافة أميرها الشيخ صقر بن راشد القاسمي وذلك عام 1781، ولكن إمام عُمان أحمد بن سعيد البوسعيدي مؤسس الدولة البوسعيدية لم يعش كثيراً بعد تلك الواقعة، فبعد مرور عامين فقط توفي الإمام عام 1783 ليخلفه ابنه سعيد بن أحمد بن سعيد البوسعيدي. أما بلاد الفرس، فإنها لم تستفد من حالة الصراع الداخلي في إمارات الساحل وإمامة عُمان، لأن بلاد الفرس نفسها لا تزال تعاني من صراعاتها الداخلية بين الحزبين الزندي والقاجاري على مدى ثلاث سنوات مضت منذ بداية اندلاع الصراع عام 1780.

لا نوّد الدخول هنا في المزيد من الصراعات الداخلية التي حصلت في إمارات الساحل وإمامة عُمان بعد وفاة مؤسس الدولة البوسعيدية لأنها ستخرجنا عن صلب الموضوع حول الصراع مع الدولة الإيرانية، ولكن السنوات اللاحقة شهدت المزيد والمزيد من الصراع بين أبناء إمام عُمان السابق، الأمر الذي أدى إلى نشوب الحروب الأهلية من جديد بين الحزبين السياسين الرئيسين في إمارات الساحل وإمامة عُمان وهما الحزب الهنائي والحزب الغافري، ودخلت إمارة بني ياس النهيانية زعيمة الحلف الهنائي في حرب هي كذلك ضد الحزب الغافري القاسمي الزعامة، وكان أمير القواسم الشيخ صقر بن راشد مصراً على عزل الحاكم العماني الجديد، فانتعشت حالة الحرب بين إمارة القواسم وإمامة عُمان ومدفعية كلتا الدولتين تدك بعضها البعض، وعندما ملّ حاكم عُمان من الوضع الجديد المتأزم قام بتنصيب ابنه حمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد البوسعيدي حاكماً على إمامة عُمان عام 1786، فيما احتفظ الإمام بلقب شرفي اسمي على البلاد، الأمر الذي لم يلقى قبولاً من بقية أخوان الإمام، فكيف لفتى يافع يصبح حاكماً على البلاد وهم أجدر من ابن أخيهم، واستمرت الحروب الداخلية في إمامة عُمان ما أدى إلى اضعافها أمام قوة بلاد الفرس العسكرية المتربصين بالجهة العربية المقابلة للخليج العربي. وفي العام 1790 دخلت إمارة القواسم وإمامة عُمان في معاهدة صلح والكف عن حالة الحرب بين البلدين. وفي العام 1792 توفي حاكم عُمان الشاب حمد بن سعيد بسبب اصابته بمرض الجدري، فعادت السلطة من جديد إلى الوالد الإمام سعيد بن أحمد بن سعيد، ولكن قصة الصراع على الحكم بقت مستمرة في حروب غير قابلة للتوقف بينما الفرس يراقبون الوضع بكل سعادة يتحيّنون الفرصة المواتية للانقظاظ على اعدائه. وفي العام 1793 آلت السلطة في عُمان إلى سلطان ابن مؤسس الدولة البوسعيدية أحمد بن سعيد.

قام إمام عُمان الجديد سلطان بن أحمد البوسعيدي بإعادة تنظيم شؤون البلاد الداخلية من جديد، ثم قام بإعادة تشكيل الجيش العماني، وفكر جدياً في محاربة بلاد الفرس بسبب استمرار الحرب الأهلية الإيرانية بين الحزبين القاجاري والزندي، وفي العام 1794 تحرك الأسطول العماني نحو إيران، بينما كانت الاستعدادات الفارسية في غاية السوء، واستطاع الأسطول العماني من احتلال جزيرة القسم وهرمز ومدينة بندر عباس ومجمل بلاد مكران البلوشية. ولم تكن هناك أية ردّ فعل إيرانية تجاه الانتصارات العمانية واحتلالها لمساحات كبيرة جداً من الأراضي الفارسية، فالقيادة الفارسية كانت مشغولة بصراعها الداخلي الذي انتهى بانتصار الحزب القاجاري بشكل في غاية الدموية ضد الحزب الزندي، وبهذا سقطت الدولة الزندية عام 1796 وحلّت محلها الدولة القاجارية بزعامة آغا محمد خان، واستمرت الاسرة القاجارية تحكم لمدة طويلة جداً استمرت إلى العام 1933 حين سقطت بيد قائد الجيش رضا شاه بهلوي.

مع قيام الدولة القاجارية شعر أمير إمارة القواسم الشيخ صقر بن راشد القاسمي بنوع من القلق من الاستعدادات الإيرانية التي بكل تأكيد ستعلن قيادتها الحرب على إمارات الساحل، وستطالب بالأراضي التي تمكنت إمارة القواسم من احتلالها في بر فارس. من جهة أخرى، استمرت الدولة البريطانية في استفزاز إمارة القواسم، الأمر الذي دفع بالسفن القاسمية استخدام القوة وضرب بعض البحارة البريطانيين وسفنهم. وعندما لاحظ إمام عُمان سلطان بن أحمد البوسعيدي حالة العداء بين بريطانيا وإمارة القواسم قام بكسب ودّ بريطانيا وتوثيق علاقاته معها لمحاربة اعدائه اللدودين في إمارة القواسم.

المشكلة هنا أن دخول أطراف أجنبية في الحرب الدائرة بين إمارات الساحل والدولة الإيرانية هي التي ساهمت مساهمة قوية في خسارة إمارات الساحل لأراضيها في بر فارس وكذلك الجزر القريبة من السواحل الفارسية، ففي العام 1798 تعرضت إمارات الساحل وإمامة عُمان لدخول طرف جديد نجح في زعزعت الأمن الداخلي وهي الدولة الوهابية الأولى، التي كانت تسعى لاحتلال أكبر قدر من أراضي الجزيرة العربية ونشر الوهابية.

في العام 1799 تعرضت عاصمة إمارة القواسم رأس الخيمة لنكسة حقيقية عندما رفض حاكمها الشيخ صقر بن راشد القاسمي مساعدة الوهابيين في الحرب التي أعلنوها ضد إمامة عُمان، وكانت قوات الوهابيين قد تمكنت من الوصول إلى واحة البريمي بقيادة عبد نوبي أسود اسمه سالم بن بلال الحارق، وقام ببناء قلعة في البريمي. كما قام الوهابيين بإرسال قوة أخرى بقيادة راشد بن سنان المطيري، وعلى اثر الرفض القاسمي التعاون مع الوهابيين ضد عُمان، أعلنت دولة الوهابيين الحرب على إمارة القواسم، لكن نجح حاكمها الشيخ صقر بن راشد القاسمي في ضرب القوات الوهابية وتشتيت شملها. وبعد تلك الهزيمة التي لحقت بالوهابيين قام القائد الوهابي مطلق المطيري بتشكيل وإعداد جيش كبير قوامه 4 آلاف جندي، وحاصر مدينة رأس الخيمة لمدة 17 يوماً، عانى خلالها أهل رأس الخيمة الجوع والعطش الشديد، بسبب سيطرة الوهابيين على آبار الماء، ولم يكن أمام الزعيم القاسمي إلا الموافقة على الصلح، ولكن العنيد مطلق المطيري اشترط اعتناق القواسم للفكر الوهابي، فكان الشيخ صقر بن راشد القاسمي مرغماً على الصلح، ولم يكتفي المطيري بهذا الإذلال واشترط أيضاً هدم جميع الأضرحة الصوفية.

بعد قيام الوهابيين بتدمير قبور الأولياء الصالحين في رأس الخيمة، انتفض أهل رأس الخيمة غاضبين من هذا التصرف اللا أخلاقي، وحلّ هياج عام بين السكان، وقاموا بقتل 10 جنود وهابيين، فأصدر مطلق المطيري أوامره بإطلاق النار على العزّل من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، ولم يرحموا الصغير والكبير ونهشوا أجسادهم بطلقات الرصاص والبارود، ثم غدروا بالزعيم القاسمي وألقوا القبض على عدد كبير من شيوخ وأعيان رأس الخيمة، وتم نفيهم إلى مدينة لنجة القاسمية في بر فارس.

كانت تلك الحادثة أيضاً أحد أسباب تفكك الدولة القاسمية ونشوء دويلات جديدة انفصلت عن الدولة القاسمية الأم، واستمرت الأوضاع الداخلية في إمارات الساحل عموماً في تخبط مستمر خلال السنوات اللاحقة، والحرب الأهلية غير راغبة في التوقف، والعدو الإيراني المتمثل في الدولة القاجارية تعد العدة، أما أمير القواسم الشيخ صقر بن راشد القاسمي الذي فوجيء بما حل بإمارته من أوضاع في غاية السوء بسبب الحروب الكثيرة التي انهكته وأنهكت شعبه ثم تعرض بلاده لاحتلال الوهابيين، فقد مات كمداً وقهراً في العام 1803.

في هذه الحلقة تناولنا الأوضاع الداخلية وصراعاتها على الحكم وما نتجت عنه في إمارات الساحل وإمامة عُمان، وصحيح أننا ابتعدنا في أغلبها عن الصراع مع الدولة الفارسية، ولكننا اختصرنا تلك الوقائع سعياً منا كي لا يقع القارئ في حالة من التشتيت لما سنعرفه في الحلقات القادمة وصراعنا التاريخي مع الفرس.

الحلقة (7)

إن أحد أهم أسباب إنهزام الدولة القاسمية أمام القوات الوهابية عام 1799 هو إنفصال إمارة عجمان وإمارة أم القيوين من الوطن الأم إمارة القواسم نهاية القرن الثامن عشر، ما أثر سلباً على قوة إمارة القواسم العسكرية وتراجع آلاف المقاتلين من عجمان وأم القيوين والخروج من الحلف القاسمي، فأستثمر الوهابيون الفرصة للهجوم على عاصمة القواسم رأس الخيمة.

بعد وفاة أمير القواسم الشيخ صقر بن راشد القاسمي عام 1803 آلت السلطة إلى أخيه الشيخ عبدالله بن راشد القاسمي، لكن ما لبث أن قام ابن الحاكم السابق سلطان بن صقر بحركة معارضة ضد عمه، ثم قرر اغتيال عمه عبدالله، وبالفعل نجح في عملية الاغتيال التي قام بتنفيذها بنفسه وذلك بطعن عمه عبدالله بالحربة، وأصبح سلطان بن صقر الأمير الجديد لإمارة القواسم في العام نفسه 1803، وبمجرد أن استلم الشيخ سلطان سدة الحكم أعلن الحرب على إمامة عُمان، وكالعادة بقيت إمارة القواسم وإمامة عُمان في حروب مستمرة، كما شهدت إمامة عُمان نفسها صراعات جديدة على الحكم من الأسرة الحاكمة التي كان يحكمها الإمام سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي.

يعتبر العام 1804 هو العام الأساسي الذي فيه تم تأسيس أو إنشاء إمارة عجمان النعيمية على يد آل بوخريبان النعيميين بعد إنفصالها عن الحلف القاسمي، كما شهد هذا العام مقتل إمام عُمان سلطان بن أحمد على يد القوات القاسمية بالقرب من جزيرة القسم القاسمية عندما كان عائداً من البصرة، وأثناء عودته اعترضته سفن من الأسطول القاسمي وأطلقت النيران على سفن إمام عُمان وأصابته طلقة نارية اخترقت جمجمته وخرّ صريعاً، فآلت السلطة العمانية إلى ثاني أنجال سلطان الصبي سعيد بن سلطان ذو الخمسة عشر ربيعاً وتحت وصاية عمته السيدة موزة بنت الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، وكان الهم أو الهدف الأكبر لإمام عُمان الجديد الانتقام من إمارة القواسم، ولكن الإمام الجديد اصطدم برفض أعمامه أشقاء والده الاعتراف به إماماً على عُمان، فقامت الحرب الأهلية من جديد في إمامة عُمان، وسرعان ما عاد أمير القواسم الشيخ سلطان بن صقر طرفاً في الحرب الأهلية العمانية، ثم عادت إمارات الساحل بأكملها في الحرب العمانية الأهلية ما بين الحزبين الغافري والهنائي إلى أن تم الاتفاق ما بين الحزبين على الصلح.

بعد إنتهاء الحرب الأهلية قام شيخ القواسم سلطان بن صقر بتثبيت حكمه من جديد على جزيرة القسم (الجسم) وإرسال الكتائب العسكرية في رسالة واضحة إلى الفرس بأن جزيرة القسم ستبقى قاسمية، وبمجرد الإطباق على الجزيرة تحركت الوحدات القاسمية نحو مدينة بندر عباس، وبدون أدنى مقاومة من الفرس تم احتلال بندر عباس من قبل القواسم، وأمام استمرار البحرية البريطانية في انتهاك المياه الإقليمية القاسمية بدون استئذان اندلعت المواجهات البحرية ما بين القوات البحرية القاسمية والبريطانية في الخليج العربي، وكانت أغلب تلك المعارك تذهب لصالح القوات القاسمية الذين بمجرد أن تنتهي المعركة لصالحهم كانوا يقومون بإعدام البحارة البريطانيين والهنود بالسيف، ثم يقومون بوضع الرؤوس المبتورة عند حواف السفن القاسمية في رسالة واضحة إلى من يريد محاربة الأسطول القاسمي.

حاولت القوات البريطانية ولمرات عدة الانتقام من البحرية القاسمية ولكنهم فشلوا في جميع المعارك التي جرت بينهم، فقررت المملكة المتحدة عرض الصلح والتفاوض مع إمارة القواسم عام 1805، وهذا ما تم بعد اتفاق الطرفين على بنود الاتفاقية المرضية لكلا الطرفين عام 1806، ولكن الاتفاقية لم تكن مرضية بالنسبة إلى إمامة عُمان التي استهجنت الاتفاقية – مع العلم أن إمامة عُمان تلك الفترة لا يُعرف لها إماماً محدداً بسبب تناحر الأسرة الحاكمة وكل شخص يطلق على نفسه لقب إمام – ودخلت في حرب جديدة وكالعادة المملة مع إمارة القواسم، واستطاعت القوات العمانية من تكبيد القوات القاسمية للخسائر الجسيمة، هذا بالإضافة إلى استمرارية الحرب الأهلية العمانية في الداخل أيضاً، الأمر الذي دفع بإمارة بني ياس النهيانية إلى التدخل عسكرياً في الحرب العمانية ودعم الإمام الصبي سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي، حيث أصدر أمير إمارة بني ياس الشيخ شخبوط بن ذياب الفلاحي أوامره لقواته البرية في بادية الظاهرة للتحرك ضد المناوئيين من أعمام إمام عُمان الفتى اليافع سعيد بن سلطان، وللمرة الأولى شهد العام 1806 تعاون ما بين إمارة القواسم وإمارة بني ياس، حيث اتفقت الإماراتين على محاربة عم إمام عُمان قيس بن أحمد بن سعيد الثائر على ابن أخيه، واندفعت القوات القاسمية وقوات من بني ياس بقيادة حاكم مدينة دبي الظبيانية – تلك الفترة – الشيخ هزاع بن زعل آل سعدون الفلاحي، وكانت مدينة مسقط مسرحاً للمعارك البرية ما بين إمارات الساحل وإمامة عُمان حتى توقفت الحرب بعد تدخل الأشراف والأعيان لوقف هذه المهزلة والصراع المستميت من قبل أعمام الإمام للاستحواذ بالحكم، وانسحبت قوات إمارة القواسم وإمارة بني ياس. ولكن ومع حالة الهدوء اللاحقة استطاع الإمام الفتى من التخلص من خصومه عام 1807، حيث قام بنفسه باغتيال أحد رؤوس الفتنة العمانية عمه بدر بن أحمد، والذي كان موالي للوهابيين، كما استطاع الإمام اليافع من القضاء على ثورة عمه الآخر قيس، وأصبح الشاب سعيد الزعيم الأوحد لإمامة عُمان، الأمر الذي أثار إمارة القواسم وأعلنت الحرب من جديد على إمامة عُمان!

في العام 1808 تغير لقب الإمام في عُمان إلى السلطان، وأطلق الحاكم الشاب على نفسه وللمرة الأولى لقب سلطان عُمان السيد سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي، والمشكلة هنا أن كثرة المشاكل الداخلية في إمامة عُمان أدت إلى قلة تركيز إمارة القواسم لقواتها نحو بلاد الفرس، فكانت أغلب القوات القاسمية في وضعية الاستعداد ضد الدولة العمانية، ولكن العمانيين استطاعوا الهجوم على مدينة خورفكان القاسمية وارتكبوا فيها مذبحة ضد سكانها من العام 1808، الأمر أثار غضب أمير القواسم الشيخ سلطان بن صقر، والذي كان منشغلاً أيضاً بالحرب ضد الفرس في جزيرة القسم ومدينة بندر عباس في بر فارس.

على إثر مذبحة خورفكان، قامت إمارة القواسم بتشكيل أسطول ضخم متوجه إلى خورفكان، بلغ تعداد جنوده أكثر 12 ألف مقاتل ونحو 95 سفينة عسكرية مقاتلة، بالإضافة إلى عدد كبير آخر من السفن الصغيرة المصاحبة، والتحم الجيشين القاسمي والعماني في معركة تاريخية شديدة الرهبة والعنف، بلغ تعداد القتلى فيها بالآلاف، وخسر الجيش العماني ومات عم سلطان عُمان السيد قيس بن أحمد بن سعيد، وحاول سلطان عُمان الشاب سعيد بن سلطان، والذي كان يقود الأسطول العماني بنفسه، أن يقاتل حتى آخر رمق ولكن سفينته نفسها تعرضت لدك المدافع القاسمية، وكاد أن يغرق في البحر سلطان عُمان لولا أن سفينة عمانية أخرى انتشلته من البحر وانسحبت، فكان انتصاراً تاريخياً للشيخ سلطان بن صقر القاسمي على الدولة العمانية عام 1808، وقد شجع هذا الانتصار الأسطول لقاسمي للقيام بالمزيد من عمليات اعتراض السفن البريطانية التي تخترق المياه الإقليمية التابعة لإمارة القواسم سواء في مياه إمارات الساحل أو مياه بر فارس، خاصة عندما علم الشيخ سلطان بن صقر أن الفرس على وشك إبرام اتفاقية تعاون عسكري ضد إمارة القواسم، وبدأت السفن العسكرية البريطانية بالتوجه نحو ميناء بوشهر الإيراني بدعوة من حاكم الفرس الجديد بابا خان قاجاري، والذي أطلق على نفسه لقب “فتح علي شاه”، لكن الأسطول القاسمي فاجأ السفن البريطانية أثناء عودتها، وفتحوا نيران مدافعهم نحوها، وللإمانة التاريخية، يجدر بنا أن نذكر هنا أن التصرف الذي قام به الأسطول القاسمي غير حضاري، لأن السفن البريطانية لم تبادر بإطلاق النار، بل أنهم أطلقوا عبارات الترحيب على الأسطول القاسمي، ولكن سفن إمارة القواسم ردّت عليهم بالمدافع، وعندما تمكنوا من السفن البريطانية قاموا بجز أعناق البحارة البريطانيين بالسيوف وتعليق الرؤوس المبتورة عند حواف السفن. وكان من الممكن للأسطول القاسمي الاستيلاء على السفن من دون الحاجة إلى اعدام البحارة وفي البحر بتلك الطريقة الوحشية، خاصة وأن البحرية البريطانية لم تكن ترغب في الدخول في مواجهة عسكرية مع القواسم، بل أن القواسم استمروا في اعتراض السفن البريطانية، وبلغ عدد السفن البريطانية التي تعرضت للاستيلاء من قبل الأسطول القاسمي نحو 20 سفينة بريطانية عام 1808، وبهذا فتحت إمارة القواسم على إمارات الساحل جميعها جبهة عدائية لا حاجة لها مع أقوى دولة في العالم تلك الفترة المملكة المتحدة.

في العام 1809 فكر جدياً أمير القواسم الشيخ سلطان بن صقر القاسمي في الانتقام لوالده من الدولة السعودية التي تسببت في وفاة والده المفاجئة بعد إنهزام الجيش القاسمي أمام الوهابي عام 1799، ثم عقد العزم مع سلطان عُمان سعيد بن سلطان على تشكيل حلف قاسمي عُماني جديد ونزيه ضد الدولة السعودية، ولكن لم تكتب للخطة النجاح بسبب تواجد الكثيريين من الاسرة القاسمية المواليين للدولة السعودية، وعارضوا فكرة الدخول في حرب مع الوهابيين على اعتبار أن هؤلاء أخوة لهم في المذهب، وعندما علم أمير السعودية سعود بن عبدالعزيز بالمؤامرة التي كان يرتبها الشيخ سلطان بن صقر ضده، طلب من أمير القواسم الحضور إلى الدرعية في نجد، وبقي هناك، وقد ذكر المؤرخ الإماراتي عبدالله بن صالح المطوع – المتوفى عام 1957 – في مخطوطة “الجواهر واللآلي في تاريخ عُمان الشمالي”، والمقصود بُعمان الشمالي هي دولة الإمارات العربية المتحدة اليوم، أن الشيخ سلطان بن صقر قد أصبح أحد كبار قادة الجيش السعودي المتوجه نحو العراق، وهذا ما لا نستطيع التأكيد عليه، خاصة وأن خبرة الشيخ سلطان بن صقر العسكرية في المجال البحري وليس البري. أما في رأس الخيمة فقد قامت الأسرة القاسمية الحاكمة باختيار الشيخ حسن بن ارحمه القاسمي أميراً جديداً على الدولة القاسمية عام 1809، وسرعان ما أظهر الأمير الجديد للقواسم عدائه الشديد للدولة البريطانية والدولة العمانية، وكان الأسطول القاسمي يكتسح أقوى السفن العسكرية البريطانية، ولم تستطع البحرية البريطانية من صد هجمات الأسطول القاسمي. كما شكلت الدولة القاسمية تحالفاً مع الدولة السعودية ضد الدولة العمانية، في محاولة إلى إحياء الحروب من جديد بين الحلفين الغافري والهنائي في إمارات الساحل وإمامة عُمان، ودخل الحزبين في معارك كعادتها سوف تُشعر حتى القارئ بالملل من كثرتها. من جهة أخرى، حصل ما كان متوقعاً بسبب كثرة هجمات السفن القاسمية على السفن البريطانية، وأعلنت بريطانيا الحرب على إمارة القواسم عام 1809، وقامت تشكيل حملة بحرية تحتوي على أحدث السفن والمدافع البريطانية المتطورة، هذا بالإضافة إلى قوة برية تتكون كتائب متعددة، ونظراً لعلم الدولة البريطانية بالعداء الشديد بين الدولتين القاسمية والعمانية، فقد حرص البريطانيين على إدخال سلطان عُمان سعيد بن سلطان حليفاً لهم في الحملة البريطانية المرتقبة.

في يوم 14 سبتمبر 1809 انطلق الأسطول البريطاني المتطور العتاد والعدة من ميناء مدينة بومباي (مومباي) الهندية نحو عاصمة إمارة القواسم رأس الخيمة، واستغرقت الرحلة أسابيع عدة ولم تصل إلى رأس الخيمة إلا بتاريخ 10 نوفمبر 1809، ولم تكن رأس الخيمة على استعداد لمواجهة تلك الحملة البريطانية المخيفة، وبعد يومين أي بتاريخ 12 نوفمبر فتحت المدفعية البريطانية نيرانها نحو المدينة تدك منازلها وحصونها التي تزلزلت بفعل القذائف البريطانية، وسرعان ما التحم الأسطول القاسمي مع البريطاني في عرض البحر يتبادلان سيولاً من القذئف الحارقة، ولكن الكفة ترجحت لصالح البريطانيين الذين استطاعوا اضرام النيران في سفن القواسم واغراق أعداد كثيرة منها، ثم قام الجيش البريطاني بعملية إنزال بري يوم 13 نوفمبر فيما كانت القذائف البريطانية مستمرة في دكّ المدينة، ثم التحم الجيشين في معركة برية قُتل فيها نحو 300 مقاتل قاسمي، وثم اليوم التالي انسحب الجيش البريطاني بعد أن لقن أمير القواسم الشيخ حسن بن ارحمه درساً، مع العلم أن سلبيات هذا الحاكم ومغامراته المجنونة هي السبب الرئيس في تدمير قوة إمارة القواسم، والمشكلة أن مغامراته المجنونة كانت تنعكس بالسلب على جميع إمارات الساحل وليس فقط رأس الخيمة، وهو من تسبب في إبرام اتفاقية عام 1820  والتي بموجبها أصبحت إمارات الساحل محميات بريطانية حتى العام 1971.

في يوم 14 نوفمبر 1809 هرب الأسطول البريطاني من سواحل رأس الخيمة بعد قدوم آلاف المقاتلين من مختلف إمارات الساحل لمقاتلة العدو المشترك الدولة البريطانية، وتوجه الأسطول البريطاني نحو مدينة لنجة القاسمية في بر فارس، وقام بتدمير نحو 20 سفينة قاسمية حربية راسية في ميناء لنجة، ثم قام البريطانيين بدكّ مدينة لنجة بنيران قذائفها المدفعية، وبعد انتهاء البريطانيين من تدمير لنجة توجهوا نحو جزيرة القسم القاسمية لتدميرها هي كذلك، ولكن مدفعية الجزيرة استقبلت البحرية البريطانية بالنيران الشديدة الكثافة، ولكن مدفعية الجزيرة لم تكن قادرة على الاستمرار في مقاومة السلاح البريطاني المتطور، فاستسلمت الجزيرة برفع العلم الأبيض بعد مقتل نحو 90 مقاتل قاسمي وتدمير السفن الحربية القاسمية الراسية أيضاً في الجزيرة.

كانت الدولة العمانية وسلطانها سعيد بن سلطان في غاية السعادة للضربة القوية التي تعرضت لها الدولة القاسمية، ونجح التحالف العماني البريطاني ضد الدولة القاسمية، فيما نلاحظ هنا الدولة السعودية لم تقم بتقديم أية مساعدة عسكرية للقواسم رغم أن الدولة القاسمية كانت حليفة للوهابيين، وآثرت عدم الدخول في مواجهة مع البريطانيين وترك القواسم لمصيرهم المحزن أمام القوات البريطانية، ووحدها بقية إمارات الساحل قامت بتقديم المساعدات للدولة القاسمية. من جهة أخرى، استمر سلطان عُمان في مطالبة البريطانيين بتدمير معاقل الجيش القاسمي في مدينة شناص، والتي كانت من ملحقات إمارة القواسم ولكن العمانيين يقولون أنها أراضٍ عمانية، فتوجهت البحرية البريطانية نحو شناص في بداية العام 1810، وباشرت البحرية البريطانية في دكّ الحصون القاسمية بالمدفعية الثقيلة، فيما كانت الحصون القاسمية تردّ بالمثل، ثم قام الجيش البريطاني بعملية إنزال بري، ثم جاء الجيش العماني لمعاونة البريطاني ضد الجيش القاسمي الذي قاتل قتالاً مشرفاً وهو في وضعية سيئة للغاية، ولم يستطع الجيش القاسمي البري من الاستمرار في الحرب البرية بسبب تفوق أعداد الجيش البريطاني والعماني، فانسحب إلى الأبراج الدفاعية، فيما كانت نيران المدفعية البريطانية والعمانية تدكهم دكاً حتى استسلم الجيش القاسمي بعد مقتل نحو 700 قاسمي وتم اسر اكثر 700 آخرين من الجنود القواسم.

لم يكتفي سلطان عُمان بمدينة شناص وطالب أيضاً بمدينة كلبا، ومصراً أيضاً على أنها أيضاً أراضٍ عمانية، وكانوا البريطانيين يؤيدون حاكم عُمان في كل ما يقول، لأن المهم عندهم هو القضاء على القوة القاسمية نهائياً، وعلى الرغم الهزائم المتتالية التي تعرضت لها إمارات رأس الخيمة وعجمان وأم القيوين والشارقة، الذين كانوا يعرفون سابقاً بالحلف القاسمي، إلا أن جيوب المقاومة القاسمية كانت لا تزال مستمرة، واستطاعت قبيلة الزعاب سحب اعداد كثيرة من السفن المقاتلة واخفائها في أبوظبي تحت حماية إمارة بني ياس النهيانية.

نعتذر مجدداً عن الخروج عن موضوع الصراع مع الفرس ولكن هناك من الحيثيات التي يجب ذكرها لمعرفة أسباب انهيار قوة إمارات الساحل أمام بلاد الفرس التي تحتل اليوم أراضينا وجزرنا.

على الرغم من الانتصار البريطاني العماني المشترك ضد إمارة القواسم، إلا أن المعركة لم تكن نهائية بعد.

الحلقة (8)

الشيخ حسن بن ارحمه القاسمي لم يتعلم من العلقة البريطانية الساخنة له خلال الأعوام 1809 و1810، واستمر في إظهار العداء لأقوى دولة في العام تلك الفترة الدولة البريطانية، فكان بن ارحمه السبب الرئيس لتعرض إمارات الساحل للاحتلال البريطاني لأكثر من 150 سنة.

بقي الصراع دائراً ما بين الدولة القاسمية والدولة العمانية، وعلى الرغم من الهزيمة القاسمية من الدولة البريطانية، إلا الدولة القاسمية سرعان ما استجمعت قواها، وشكلت تحالفاً عسكرياً قوياً مع الدول السعودية، فيما أظهرت إمارة بني ياس النهيانية العداء للدولة السعودية، ودخل أميرها الشيخ شخبوط بن ذياب في تحالف عسكري مع أمير عُمان سعيد بن سلطان ضد التحالف القاسمي الوهابي، ولكن سلطان عُمان كان يريد أن يسحق القوة القاسمية نهائياً، فقرر الاستعانة بالعدو اللدود للدولة القاسمية بلاد فارس، وذلك في العام 1811، وارسل بالفعل وفداً رفيع المستوى إلى حاكم إيران فتح علي شاه قاجاري في مدينة شيراز.

للأسف، لم يتعلم سلطان عُمان سعيد بن سلطان من الدرس التاريخي الذي وقع فيه الحاكم العماني الخائن سيف بن سلطان آل عرب (اليعربي) قبل نحو قرن من الزمان عندما استعان بالفرس ليحارب بهم أهله وناسه، وها هو سعيد بن سلطان يرتكب الخطأ ذاته! وكان فتح علي شاه في غاية السعادة من الطلب العماني، لأنه كان يريد بأي صورة الانتقام من الدولة القاسمية واسترجاع الأراضي الفارسية المحتلة من قبل إمارة القواسم، وكذلك الانتقام من الدولة السعودية التي ارتكبت مجزرة بشعة في حق الأبرياء في مدينة كربلاء العراقية، فكانت فرصة بالنسبة لحاكم فارس، وأصدر أوامره بتجهيز حملة عسكرية بلغ عدد جنودها نحو 3000 مقاتل، تم تطعيمها بعشرات المقاتلين الروس المؤهلين في مجال الحروب البحرية والبرية، وكانت الحملة الإيرانية بقيادة سعدي خان، والذي وصل إلى مدينة بركا العمانية مع حملته العسكرية في العام 1811.

عارض الحزب الغافري – وهو حزب يتكون من عدة عشائر في الإمارات وعُمان والحال ينطبق أيضاً على الحزب الهنائي- استعانة الدولة العمانية بالفرس، وأعلن الحزب الغافري أنه سيقاتل ضد الفرس، وتم تشكيل الجيشين العماني والفارسي للقيام بعدة هجمات ضد العشائر الغافرية، فسقطت مدينة نخل ثم مدينة بركا ثم سمايل، وعلى إثر الهزائم المتتالية للحزب الغافري – الذي يشتمل أيضاً على إمارة القواسم – هرب القائد السعودي في مدينة البريمي مطلق المطيري إلى الدرعية ليطلب النجدة ضد التحالف العسكري العماني الفارسي المشترك، ولكن الوحدات السعودية المتواجدة في البريمي دخلت في مواجهة عسكرية مع الجيش العماني وخسر السعوديين المعركة، وتم تدمير الحامية السعودية في البريمي وهروب من تبقى على قيد الحياة من السعوديين إلى بلادهم. ولكن سرعان ما عاد القائد السعودي مطلق المطيري ودخل في معركة مع الجيش الفارسي في مدينة أزكى العمانية، واستطاع القائد السعودي أن ينزل هزيمة كبيرة في الجيش الفارسي الذي انهزم شر هزيمة، وكان الجنود الفرس مشتتون وغير قادرين على استجماع قواهم، وهرب قائدهم سعدي خان من المعركة، منسحباً نحو مدينة بركا العمانية، ثم عادت عشائر الحزب الغافري واسترجعت المدن التي سقطت مسبقاً بيد الجيشين العماني والفارسي المشترك. من جهة أخرى، تعرض الحركة الوهابية لهزة عنيفة بسبب الحملة العسكرية الضخمة التي تشنها الدولة التركية في مصر ضد الوهابيين، ونجحت الحملة المصرية في اسقاط الدولة السعودية الأولى بعد بضعة سنوات من بدء الحملة.

شهد العام 1812 هروب أمير القواسم السابق الشيخ سلطان بن صقر القاسمي من السعودية في ظل الصراع المصري ضد الدولة السعودية، واستقر الشيخ القاسمي مؤقتاً في مدينة صور العمانية، وقام بحركة معارضة ضد أمير القواسم الشيخ حسن بن ارحمه مطالباً بعرشه السابق. كما شهد العام نفسه، إعلان إمارة بني ياس النهيانية الحرب على الدولة السعودية، حيث قرر أمير بني ياس الشيخ شخبوط بن ذياب قطع الطريق أمام الجيش السعودي الذي كان مغادراً من البريمي نحو الدرعية، وأمر قائد جيوش إمارة بني ياس الشيخ سعيد بن راشد بن شرارة الفلاسي – الجد الأكبر للأسرة المكتومية حكام دبي – بالهجوم على الجيش السعودي، وانتصر القائد الفلاسي وأباد الجيش السعودي عن بكرة أبيه في معركة تاريخية تُعرف بموقعة “أم الذيب” في صحراء الظفرة الظبيانية. وكانت تلك المعركة بمثابة الكارثة للدولة السعودية التي قررت الانتقام من إمارة بني ياس وسلطنة عُمان، وإرسال المزيد من الجيوش. كما قرر أيضاً الشيخ حسن بن ارحمه القاسمي أمير القواسم الانتقام من الدولة البريطانية، وقام ببناء المزيد من السفن الحربية، وقام باعتراض السفن البريطانية والهندية وتدميرها وسلبها وقطع رؤوس بحارتها، وكأنه يوجه دعوة مفتوحة للدولة البريطانية لاستباحته من جديد!

على الرغم من الحروب القاسمية العمانية السابقة في عهد أمير القواسم السابق سلطان بن صقر القاسمي، إلا أن عندما علم سلطان عُمان سعيد بن سلطان عن تواجد الحاكم القاسمي السابق في مدينة صور، قرر استضافته ودعاه للحضور إلى مدينة مسقط عام 1813، حيث أكرمه وأثنى عليه، على أمل أن يكسبه لصالحه ضد أمير القواسم المعادي له حسن بن ارحمه، ولكن الشيخ سلطان بن صقر قرر التوجه إلى مدينة لنجة القاسمية في بر فارس بدلاً من البقاء في مسقط، وانسحب الجيش الفارسي من عُمان وعاد إلى بلاده خشية من الوهابيين.

وجد أمير عُمان نفسه وحيداً في ظل هجمات الوهابيين على المدن العمانية، فقرر رشوة القائد السعودي مطلق المطيري بمبلغ وقدره 40 ألف من عملة ماريا تريزا النمساوية المتداولة تلك الفترة على نحو دولي، ولكنها كانت في الأصل خطة من سلطان عُمان لإشعار الوهابيين بالأمان لأن الحروب أنهكت المقاتليين السعوديين أيضاً، وأثناء مغادرة الجيش السعودي ضربوا خيامهم في منطقة جعلان العمانية، وعندما نام الجيش السعودي تعرضوا لهجوم مباغت من قبل سكان الجبال العمانيين وأبادوا الجيش السعودي وتشتت شمل من بقي على قيد الحياة بعد تعرض قائدهم مطلق المطيري للقتل بعد أن أصيب بطلقة نارية من قبل أحد المقاتلين العمانيين. ثم باشر الجيش العماني في تطهير بقية القرى والمدن العمانية من الوهابيين، وتم قتلهم، كما أرسل أمير عُمان رسالة إلى أمير بني ياس الشيخ شخبوط بن ذياب يطلب منه العون العسكري لاسقاط الحكم الغير شرعي للشيخ حسن بن ارحمه وإعادة الحكم القاسمي إلى الشيخ المعزول سلطان بن صقر المتواجد في مدينة لنجة في بر فارس، ووافق أمير بني ياس على إعادة الشيخ القاسمي المعزول إلى حكم رأس الخيمة من جديد، وتم الاتفاق على تقوم الدولة العمانية بالهجوم البحري على أن تقوم الدولة النهيانية بالهجوم البري.

وفي العام 1814 اندلعت المعارك البحرية والبرية بين إمارة القواسم ضد كل من الدولة العمانية من جهة والدولة النهيانية من جهة أخرى، في إحياء جديد للصراع ما بين الحزبين الغافري والهنائي، ولكن الأسطول القاسمي كان أقوى بكثير من الأسطول العماني واستطاع إنزال الهزائم في الأسطول العماني ونجحوا في إغراق سفن عمانية عدة، لدرجة عجز الأسطول العماني عن تكملة المعركة وانسحب منهزماً إلى مسقط، أما على الجبهة البرية اندلعت المعارك بين الجيش القاسمي وجيش بني ياس الذي بلغ تعداده 2000 مقاتل بني ياسي، ولكن الجيش القاسمي استطاع أيضاً دحر جيش بني ياس الذي عاد إلى مراكزه بعد فشله في اتمام المهمة.

أثارت تلك المعارك حاكم القواسم حسن بن ارحمه وأطلق أساطيله من جديد لمهاجمة السفن البريطانية والهندية، ولم يفرق ما بين سفينة عسكرية وتجارية، فكان مثل الذئب الجريح الذي يرغب في قتل أي شيء أمامه. فيما كانت ردتّ الفعل البريطانية، إرسال المزيد من السفن الحربية لمقاتلة السفن القاسمية في الخليج العربي، مع تقديم كافة أشكال الدعم العسكري واللوجستي للدولة العمانية ضد الدولة القاسمية التي تعرضت أيضاً لنكسة أخرى في العام 1814 عندما انفصلت مقاطعة الشارقة القاسمية عن الوطن الأم “إمارة القواسم”، بسبب إلحاح سلطان عُمان سعيد بن سلطان على ضرورة عودة الشيخ سلطان بن صقر القاسمي إلى سدة الحكم، فكان حاكم القواسم في رأس الخيمة الشيخ حسن بن ارحمه في مواجهة عسكرية مع ثلاثة أطراف: الدولة العمانية والبريطانية والنهيانية، ولكن في الحقيقة، المتسبب الرئيس في إنفصال إمارة الشارقة عن الدولة القاسمية هو حاكم عُمان سعيد بن سلطان العدو اللدود للدولة القاسمية الراغب في إضعاف الدولة القاسمية والاستيلاء على ممتلكاتها في البر الفارسي. وأمام حالة الانهزام التي حلّت بحسن بن ارحمه وافق على إنفصال الشارقة عن الوطن القاسمي وتعيين الشيخ سلطان بن صقر أميراً على الشارقة، ليكون بذلك في العام 1814 أول حاكم من حكام إمارة الشارقة، على أن تبقى مدينة لنجة وملحقاتها في بر فارس من ممتلكات إمارة الشارقة.

لقد أخطأ حسن بن ارحمه خطأً تاريخياً لا يغتفر بسبب حبه الشديد للكرسي الذي يجلس عليه ولم يكن يهمه المصائب التي تسبب بها لبلاده وقومه، فلو كان عاقلاً لأعاد الحاكم السابق سلطان بن صقر دون الحاجة إلى إراقة المزيد من الدماء وتفتيت الدولة القاسمية إلى دويلات بعد إنفصال مقاطعات سابقة لها وهي أم القيوين وعجمان وأخيراً الشارقة!

لقد انفصلت الشارقة عن رأس الخيمة بسبب حب حسن بن ارحمه لكرسي الحكم حتى وإن كان جزءاً صغيراً من بلاده المتعددة الأطراف، خاصة في بر فارس. كما تعهد حسن بن ارحمه للبريطانيين بعدم مهاجمتهم وفتح صفحة صلح جديدة شريطة عدم اعتراضه للسفن البريطانية أو الهندية نهائياً في الخليج العربي، وذلك في اتفاقية موقعة ما بين الدولة البريطانية والشيخ حسن بن ارحمه عام 1814.

للأسف، لم يحترم الشيخ حسن بن ارحمه الاتفاقية الموقعة مع الدولة البريطانية وأثار المشكلات من جديد بعد بضعة أشهر من توقيع الاتفاقية وتحديداً في العام 1815، واعترض السفن الهندية بذريعة أنهم من الكفرة – سواء كانوا مسلمين أو هندوس – فالهنود بالنسبة إليه من الكفرة المهدورة دمائهم، وعاد إلى مهاجمة السفن البريطانية والعمانية، وأعلن الحرب من جديد ضد الدولة العمانية، وأنكر اتفاقية 1814 ورفضها.

الحلقة (9)

توقفنا في الحلقة السابقة عند النكسة الجديدة التي تعرضت لها إمارة القواسم بإنفصال الجزء الشرقاوي من الإمارة وتحولها إلى إمارة مستقلة عن إمارة القواسم عام 1815 برئاسة الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ثم استمرارية أمير رأس الخيمة حسن بن ارحمه في القيام بحركات رعناء جلبت الدمار على رأس الخيمة، حيث استمرت الحرب الدائرة بين رأس الخيمة وعُمان، وفي هذا العام تحديداً 1815 كانت المعارك البحرية بين القوات القاسمية والعمانية شديدة للغاية، وكانت الغلبة في أجملها تذهب لصالح القوات البحرية القاسمية، رغم قيام سلطان عُمان سعيد بن سلطان بتطوير الأسطول العماني بسفن حربية بريطانية جديدة ومتطورة.

مع تحسن حالة الأسطول القاسمي، تمكن هذا الأسطول من اكتساح أعداد هائلة من السفن العمانية والبريطانية والهندية والإيرانية، وكان حسن بن ارحمه حاكماً متعنجهاً للغاية، وبدلاً من الحفاظ على مكتسبات إمارة القواسم، تسبب بشكل مباشر في دعوة بريطانيا لغزو الإمارات وتحول إمارات الساحل التي كانت تتكون من إمارتين فقط وهما إمارة بني ياس وإمارة القواسم إلى سبعة إمارات، حيث خسرت إمارة القواسم الإمارات التالية: الشارقة، عجمان، أم القيوين، والفجيرة، بالإضافة إلى جميع مكتسبات إمارة القواسم في البر الفارسي. أما إمارة بني ياس الظبيانية فقد خسرت مقاطعة دبي، وأصبحت دبي إمارة مستقلة من الدولة النهيانية عام 1833، بالإضافة إلى مكتسبات إمارة بني ياس في البر الفارسي أيضاً.

كان الأسطول القاسمي يتكون من نحو 90 سفينة حربية كبيرة، بالإضافة إلى نحو 300 طراد متوسط وصغير الحجم، وكانت حمولة السفن الكبيرة من المدافع تصل من 40 إلى 80 مدفعاً على ظهر كل سفينة، وبلغ عدد البحارة القاسميين نحو 11 ألف بحار ومقاتل بحري، هذا بخلاف الجيش البري، ومن المؤسف حقاً ألا يستغل حسن بن ارحمه هذا الجيش من أجل حماية حدوده ومكتسباته في البر الفارسي بدلاً من الدخول في صراع لا فائدة منه ضد الدولة العمانية والدولة البريطانية، بينما كانت الدولة الفارسية في غاية السعادة من الوضع السيء الذي تعاني منه الدولة القاسمية في رأس الخيمة، حيث كانت الدولة البريطانية تعد العدة لحملة بحرية ضخمة لتدمير جيش حسن بن ارحمه القاسمي، وفي العام 1816 أعلنت لندن الحرب رسمياً على إمارة القواسم بسبب خرق الدولة القاسمية للاتفاقية المبرمة بين الدولتين. ومن الجدير بالذكر هنا، أن الدولة البريطانية قبل إعلانها الحرب على الدولة القاسمية أرسلت موفداً بريطانياً اسمه تيلور لمقابلة أمير القواسم حسن بن ارحمه للاتفاق على حل وسط يرضي الطرفين بدلاً من الحرب، ولكن المبعوث البريطاني وبكل أسف لم يتم استقباله بالشكل الذي يليق بالكرم العربي الأصيل، بل تجمّع عليه مجموعة من الصبية في رأس الخيمة وضربوه ضرباً مبرحاً ونتفوا لحيته وربطوه وأركبوه حماراً، وداروا به في شوارع رأس الخيمة والأهالي يسخرون ويضحكون عليه ويقذفونه بالحجارة والقاذورات وينعتونه بـ “النصراني.. يا نصراني يا كلب”، وبعد تعرض المبعوث البريطاني للإهانة أمر أمير القواسم حسن بن ارحمه بإطلاق سراحه، وعاد المبعوث تيلور إلى لندن وهو على الحالة التي أُهين فيها في رأس الخيمة، وهذا ما اعتبرته الدولة البريطانية إهانة للتاج البريطاني، ودعوة مفتوحة من حسن بن ارحمه للحرب.

اندلعت الحروب في العام 1816 بين البحرية القاسمية والبريطانية، وكانت كلتا البحريتين تتبادلان القذائف من مختلف الأحجام الكبيرة والصغيرة، واستطاعت البحرية القاسمية من إنزال الهزائم في البحرية البريطانية المدعومة من الدولة العمانية، وكانت الغلبة للقوات القاسمية في بداية الحرب، بل أن الأسطول القاسمي عام 1817 توجه نحو السواحل الهندية لضرب معاقل الأسطول البريطاني في الموانيء الهندية، وتعرضت البحرية البريطانية لهزة عنيفة من قبل البحرية القاسمية، ودُمرت سفنها والمواني الهندية.

في العام 1818 استجمعت القوات البحرية البريطانية قواها، وارسلت الدولة البريطانية المزيد من السفن الحربية إلى الهند لتعزيز قواتها ضد الدولة القاسمية، وطلبت العون العسكري من الدولة العمانية والفارسية في الحرب الدائرة ضد الدولة القاسمية، فكانت البحرية القاسمية في حرب مفتوحة ضد جبهات متعددة في الخليج العربي وخليج عُمان وبحر العرب، وواجهة منفردة الأسطول البريطاني والعماني والإيراني، واستطاعت البحرية القاسمية من إنزال الهزائم مع جميع الأساطيل التي حاربتها، ولكن الأسطول البريطاني سرعان من استطاع من صد الهجمات القاسمية والإطباق على عدد كبير من السفن القاسمية وتدميرها في عرض البحر، خاصة مع تعرض حسن بن ارحمه لنكسة جديدة بعد سقوط الدولة السعودية الأولى على يد القوات المصرية عام 1818. وبهذا خسر حسن بن ارحمه حليفه السعودي، وأصبح وحيداً في وجه القوات البريطانية والعمانية والفارسية.

في العام 1819، قررت الدولة البريطانية إعداد حملة عسكرية في غاية الضخامة، لا مثيل لها في الخليج العربي، مع استدعاء احتياطي الجيش البريطاني على نحو دولي لغزو رأس الخيمة، وتنوعت الحملة بحيث اشتملت على عدد كبير من الفرقاطات الحربية ومشاة البحرية وسرايا برية متعددة، وحملة مدافع ورشاشات، هذا بالإضافة إلى القوات العمانية المساندة للقوات البريطانية، ويقدر عدد الجيش البريطاني مع العماني بنحو 10 آلاف مقاتل وبحار، هذا بخلاف الطاقة التدميرية البريطانية الهائلة، بينما كان الجيش القاسمي يبلغ تعداده نحو 7 آلاف مقاتل وبحار، مع العلم أن العديد من أهالي ومقاتلي رأس الخيمة انسحبوا إلى البر الفارسي بعد سقوط الدولة السعودية الأولى، لأنهم كانوا على علم أن رأس الخيمة ستسقط لا محالة أمام القوات البريطانية، الأمر الذي سبب نكسة أخرى لإمارة القواسم.

اندلعت المعارك الشديدة تحديداً يوم 3 ديسمبر 1819 بين الجيشين القاسمي والبريطاني، وكانت البحريتين القاسمية والبريطانية تتبادلان القذائف الشديدة الحرق والتدمير، وكانت أيضاً الدفاعات الأرضية في رأس الخيمة قد فتحت نيران مدافعها بشكل مستمر نحو السفن البريطانية، واستمرت المعارك على نحو يوم كامل بدون توقف من التراشق المدفعي بين القوتين، وفي اليوم التالي استطاعت القوات البريطانية القيام بعملية إنزال عسكري وتدمير الدفاعات الأرضية القاسمية، واستمرت المعارك ليومين إضافين لدرجة نفد مخزون القواسم من الذخيرة، واستخدموا الحجارة بدلاً من القذائف لإرسالها نحو البريطانيين، وكانت المعارك تدور ليلاً نهاراً بدون توقف، وفي اليوم الرابع استطاعت القوات القاسمية البرية من مفاجأة إحدى الكتائب البريطانية وإبادتها بالكامل وجز رقاب البريطانيين بالسيوف، مع العلم أن الجيش القاسمي كان تحت قيادة الشيخ إبراهيم بن ارحمه أخو الحاكم حسن بن ارحمه.

لم تسكت المدافع البريطانية إطلاقاً، وقامت بطريقة عسكرية متقنة من تطويق مدينة رأس الخيمة بحرياً، والمدافع البريطانية تنهمر على المدينة مثل إنهمار المطر في الليلة الظلماء، بينما القطعات القاسمية عاجزة عن صد الهجوم البريطاني الكاسح، فكانت تنسحب إلى المرتفعات لأن ذخيرة الدفاعات الأرضية قد نفدت ولم تعد الحجارة تجدي نفعاً أمام المدافع البريطانية، وفي اليوم الخامس من المعركة المخيفة التي حلت برأس الخيمة وأمام بكاء الأطفال وعويل نساء المدينة قرر حسن بن ارحمه الاستسلام ورفع العلم الأبيض، فألقت القوات البريطانية القبض عليه وأودعته الحبس، وتم تدمير جميع الدفاعات الأرضية البريطانية والأسطول القاسمي بأكمله، وبلغ عدد قتلى الجيش القاسمي أكثر من ألف شخص، هذا بخلاف الفوضى والدمار الذي حلّ برأس الخيمة في تلك السنة المشؤومة من عام 1819.

للأسف لم يتعلم حسن بن ارحمه من العلقة البريطانية السابقة له عام 1809 وتسبب في دمار هائل لمدينة رأس الخيمة عام 1819، ونحن بكل أسف عندما نقرأ التاريخ المكتوب في مناهجنا الدراسية، نجد أن ما يُكتب مجرد تأويلات بعيدة عن الصحة، فالصحيح هو أن حسن بن ارحمه هو من تسبب في تدمير القوة القاسمية وخسارة إمارة القواسم لممتلكاتها في البر الفارسي وتعرض إمارات الساحل – دولة الإمارات العربية المتحدة – بأكملها للاحتلال البريطاني ابتداءً من العام 1820 حتى العام 1971، مع العلم أن حسن بن ارحمه كان يدفع سنوياً إلى مولاه سعود بن عبدالعزيز في الدرعية مبلغ وقدره 120 ألف من عملة ماريا تريزا النمساوية الدولية، هذا بالإضافة إلى عدد هائل من الغنائم والأرباح تُقدر بنسبة الخمس، وخسر حسن بن ارحمه ممتلكاته في البر الفارسي بعد إنهيار القوات القاسمية وعجزها عن حماية المقاطعات القاسمية في بر فارس وتعرضها في ما بعد للاحتلال العماني والفارسي بعد أن كانت تقع ضمن ممتلكات إمارة القواسم وإمارة بني ياس.

إنني على يقين أنكم قرأتم أو سمعتم عن الحملة البريطانية ضد رأس الخيمة عام 1819 عندما كنتم في مقاعد الدراسة، وعن بشاعة الحملة البريطانية العسكرية ضد رأس الخيمة عندما تناثرت الجثث هنا وهناك على نحو جنوني لا مثيل له في تاريخ دولة الإمارات، حتى الجرحى من الرجال لم يُرحموا، بل كان الجنود البريطانيون يطلقون النار عليهم بداعي أن ذلك الرجل بجواره بندقية أو سلاح أبيض، وكانت البيوت تحترق بمن فيها من النساء والأطفال، فيما كان الجنود البريطانيون يضحكون من مشهد الأطفال وهم يجرون ويصرخون ألماً والنيران تشتعل في أجسادهم الغضة. من جهة  أخرى، كان أمير عُمان وحاكم الفرس في غاية السعادة من هذه الهزيمة النكراء التي تعرضت لها إمارة القواسم وعقدا النية على استباحة وتقاسم ممتلكات إمارة القواسم في البر الفارسي.

استمرت القوات البريطاينة في توجيه مدافعها نحو بقية المعاقل القاسمية تدكها دكاً وتبيدها عن بكرة أبيها في مدينة الرمس القاسمية، التي تعرضت لهجوم بحري وبري بريطاني عنيف، استسلمت المدينة على إثره لاحقاً.

أطلقت القوات البريطانية سراح أمير القواسم حسن بن ارحمه، وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله، ثم قابلت الشيخ سلطان بن صقر القاسمي أمير الشارقة لتوكله مهام إدارة إمارة القواسم من جديد وفقاً للشروط البريطانية.

أدخلت الهزيمة الكبيرة التي تعرضت لها رأس الخيمة الرعب في قلوب بقية أمراء إمارات الساحل، ووافقوا على إبرام معاهدة عام 1820 التاريخية الشهيرة المشؤومة في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي بموجبها أصبحت إمارات الساحل تحت الحماية البريطانية، وقامت الدولة البريطانية بإبرام الاتفاقيات مع كل حاكم من حكام إمارات الساحل على شكل منفصل، وكل هذا بسبب المغامرات المجنونة لحسن بن ارحمه القاسمي.

في العام 1820 أصبح الشيخ سلطان بن صقر القاسمي أمير الشارقة الأمير الأوحد لإمارة القواسم، وعادت الإمارة للتوحد من جديد بعد أن كانت متفرقة بين رأس الخيمة والشارقة.

لقد حرصنا على ذكر تلك التفاصيل لتبيين السبب الرئيس لإنهزال إمارات الساحل عن حماية ممتلكاتها في البر الفارسي، ولولا الهجوم البريطاني العنيف لما تجرأت الدولة الفارسية على الهجوم ضد المواقع العربية التابعة لدولة الإمارات وجزرها.

الحلقة (10)

توقفنا في الحلقة السابقة عند العام 1820، تلك السنة المشؤومة التي تعرضت فيها إمارات الساحل للاحتلال البريطاني، فيما تعرضت جزيرة القسم القاسمية إلى الاحتلال العماني، ولم تكتفي الدولة البريطانية بذلك، بل نصتّ معاهدة 1820 الشهيرة في التاريخ الإماراتي على تحييد القوات البحرية لإمارات الساحل، وفرضت شروط مبالغ فيها في كيفية بناء الحصون الدفاعية في إمارات الساحل بشكل بسيط للغاية، جعلها تفقد قوتها، هذا بالإضافة إلى تقليل القوات البرية والدفاعات الأرضية، وفرضت أيضاً اعلام محددة لإمارات الساحل باللونين الأبيض والأحمر فقط، ولا تزال هذه الاعلام تستخدم إلى يومنا الحالي في مختلف إمارات دولة الإمارات العربية المتحدة. وذكرنا أيضاً أن السلطة القاسمية عادت من جديد إلى الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، حاكم الشارقة ورأس الخيمة.

كانت الدولة الفارسية في غاية الاستياء من الاحتلال العماني لجزيرة القسم، بمباركة الدولة البريطانية، أي أن الفرحة الإيرانية بالانتصار البريطاني الشهير على رأس الخيمة عام 1819 لم تتم، لأنها كانت راغبة في استرجاع الجزيرة من الدولة القاسمية، ولكن الجزيرة أصبحت تحت الحكم العماني، فبعث الفرس رسالة شديدة اللهجة إلى لندن تطالبها بأحقيتها في جزيرة القسم، ولم يكتفوا بذلك، بل أدعوا أيضاً أن مجمل إمارات الساحل وعُمان والبحرين في الأصل عبارة عن أراضٍ فارسية!

شهد العام 1821 قيام ثورة في إمارة أم القيوين ضد الشروط البريطانية التعسفية، فقررت بريطانيا الدخول في حرب ضد أم القيوين بدعم كبير من سلطنة عُمان، وتحركت الأساطيل البريطانية والعمانية نحو سواحل أم القيوين، ولكن الأسطول القيواني فاجأ القوات العمانية والبريطانية بأسطول شديد البأس، مع العلم أن الأسطول العماني كان بقيادة سلطان عُمان نفسه سعيد بن سلطان، بينما الأسطول القيواني بقيادة الشيخ محمد بن علي المعلا، الذي فتح نيران مدفعيته بشكل شديد الكثافة، لم تستطع السفن العمانية والبريطانية من صدها، واستطاع الشيخ المعلا من تدمير أعداد كبيرة من السفن المعتدية وسحقها سحقاً، حيث كانت القوات العمانية والبريطانية تعتقد أنها ذاهبة في نزهة إلى أم القيوين واستباحتها بكل سهولة، لكن الحقيقة أن إمارة القيوين لقنت المعتدين درساً تاريخياً، ومن هول المعركة وتساقط البريطانيين والعمانيين بين قتيل وجريح، انسحب المعتدين بكل رهبة وخوف بما تبقى لديهم من سفن، حتى سلطان عُمان نفسه تعرض لجرح غائر في إحدى رجليه وأصبح أعرجاً، فيما قامت الدولة البريطانية بمعاقبة قائد الحملة البريطانية تومسون على فشله في تلك المعركة. ولم تحاول بريطانيا وعُمان الانتقام في ما بعد على تلك الهزيمة الشنيعة.

في ظل التهديدات الإيرانية باحتلال جزيرة القسم، قامت بريطانيا بتعزيز قواتها في الجزيرة عام 1822، ثم عرض الفرس بعض المرونة في حال اعترفت الدولة البريطانية بسيادة الفرس على جزيرة البحرين، وهذا ما رفضه البحرينيين بشكل قاطع.

بقيت الأوضاع متوترة في إمارات الساحل، خاصة بعد الانهزام القاسمي عام 1819، وشهدت الإمارات لاحقاً ظهور بعض المنشقين الذين حاولوا تأسيس إمارات مستقلة لهم، وحاول الشيخ سلطان بن صقر أمير القواسم إعادة إمارة عجمان إلى سلطته من جديد عام 1823 ولكنه فشل، لأن الدولة البريطانية كانت له بالمرصاد، حيث كانت تراقب عملية بناء السفن الحربية في إمارة القواسم إذا كانت ذات حمولة ثقيلة للمدافع، وكانت أيضاً تدمر الأبراج الدفاعية القاسمية إذا ارتفعت عن 30 قدماً، أي أن بريطانيا كانت تحرص كل الحرص على عدم عودة القوة القاسمية إلى سابق عهدها، الأمر الذي أصاب إمارات الساحل عموماً بنوع من خيبة الأمل، ولكنهم ثاروا ضد الدولة البريطانية مجدداً، واستمرت المناوشات والمعارك البحرية والساحلية مستمرة بين إمارات الساحل والدولة البريطانية على مدى السنوات اللاحقة، وكانت إمارات الساحل مستمرة في بناء الحصون الدفاعية والسفن الحربية، في تحدٍ واضح أمام بريطانيا المتعنجهة.

في العام 1825 اندلعت الحرب بين إمارة بني ياس وإمارة القواسم بسبب قيام الشارقة ببناء الحصون الدفاعية في البريمي، وهذا ما اعتبرته أبوظبي انتهاكاً لأراضيها، وكانت أغلب هجمات الشارقة على مدينة دبي الظبيانية – تلك الفترة – وتحديداً من جهة ديرة التي كان أغلب مواطنيها من قبيلة السودان (السويدي)، ولكن الحرب توقفت وتصالحت الإماراتين بعد تدخل من قبل سلطان عُمان، وكذلك تزوج الشيخ سلطان بن صقر كريمة حاكم دبي الظبياني الشيخ هزاع بن زعل آل سعدون الفلاحي الشيخة فاخرة بنت هزاع. مع العلم أن الشيخ هزاع كان متوفياً عندما تزوجت ابنته من حاكم الشارقة.

في ظل المطالبات المستمرة من قبل الفرس لجزيرة القسم، ارسل سلطان عٌمان سعيد بن سلطان أسطوله البحري نحو مدينة بوشهر الإيرانية ليدمرها، وذلك عام 1827، وتم سحق الأسطول الإيراني والمدينة الإيرانية عن بكرة ابيها، مع العلم أن إمارة بني ياس والدولة العمانية كانوا يشكلون تحالفاً عسكرياً ضد التهديدات الإيرانية والوهابية، حيث عانت إمارة بني ياس كثيراً من هجمات الوهابيين.

في العام 1830 شعر أمير عُمان سعيد بن سلطان بالتعب من كل تلك الحروب التي خاضها على مدى عشرات السنين السابقة، وقرر على نحو مفاجيء الاستقرار نهائياً في جزيرة زنجبار العمانية – تلك الفترة – وتوزيع مهام إدارة الدولة لأبنائه واقربائه. وسرعان ما تعرضت الدولة العمانية لحدوث انقسامات داخلية جديدة بين أفراد الأسرة الحاكمة المتنازعة على الحكم والانفصال. كما شهدت إمارة بني ياس حدوث انقسام آخر بين أفراد الأسرة الحاكمة بعد وفاة عميد الأسرة الفلاسية عبيد بن سعيد بن شرارة الفلاسي، فقام ابنه الشيخ عبيد بترتيب فصل مقاطعة دبي الظبيانية عن إمارة بني ياس وتأسيس كيان مستقل باسم إمارة دبي عام 1833. بينما كانت إمارة القواسم تحارب الدولة العمانية بكل قوة، في محاولة منها لاسترجاع أراضيها التي احتلتها عُمان في سواحل الشميلية (الفجيرة).

في العام 1832 أعلنت الدولة الإيرانية الحرب على إمارة القواسم، وقامت بمهاجمت مدينة لنجة القاسمية في البر الفارسي، الأمر الذي دفع بأمير القواسم الشيخ سلطان بن صقر القاسمي بإعلان الحرب من جهته أيضاً ضد الدولة الإيرانية، وارسل أساطيله نحو البر الفارسي، ولكن حليفة بلاد الفرس بريطانيا قامت بمحاربة الأسطول القاسمي بالنيابة عن الإيراني، فدخل الأسطولين القاسمي والبريطاني في معارك بحرية مستمرة في الخليج العربي، بينما مدينة لنجة لا تزال تعاني من الهجمات الفارسية المتلاحقة عليها، ولكن دفاعاتها الأرضية كانت قادرة على تبادل القذائف مع الفرس. وأمام العنجهية الإيرانية قامت إمارة عجمان بتوجيه أسطولها هي الأخرى نحو بلاد الفرس وهاجمت ساحل مكران الفارسي. من جهة أخرى، كانت الحروب البرية مستمرة بين إمارة بني ياس والدولة السعودية الثانية التي كانت ترسل كتائبها المقاتلة بشكل مستمر نحو صحراء الظفرة الظبيانية. وبعد انفصال إمارة دبي عن الدولة النهيانية، دخلت دبي في تحالف عسكري مع الشارقة، ليشكلوا حملة عسكرية برية بحرية معاً لمحاربة إمارة بني ياس، ولكن استطاعت أبوظبي من صد تلك الهجمات ودحر قوات دبي والشارقة، ولكن الشيخ سلطان بن صقر أمير القواسم لم يهدأ على الإطلاق، وارسل أساطيله على نحو سريع إلى أبوظبي، وتمكن من تدمير وأسر نحو 30 سفينة ظبيانية، وقام بعملية إنزال بري في أبوظبي واندلعت المعارك الحامية الوطيس على مدى 4 أيام متواصلة من دون أن تهدأ أصوات النيران، ولكن أمير بني ياس الشيخ خليفة بن شخبوط نجح في تشكيل هجوم مضاد مخترقاً الأسطول القاسمي بجنود فدائيين اقتحموا السفن القاسمية وحرقوها، وانهزمت القوات القاسمية، بينما حاكم لنجة القاسمية الشيخ محمد بن قضيب القاسمي يطالب أمير القواسم سلطان بن صقر بالكف عن محاربة أبوظبي وتوجيه قواته نحو بلاد الفرس. وكالعادة يتقاتل الأشقاء ثم يتصالحون!

بمجرد تثبيت اسرة آل مكتوم لحكمها في دبي عام 1833، قامت بتثبيت حكمها أيضاً على جزيرة هنيام (هنجام بالفارسي) عام 1834، ويحكمها الشيخ عبيد بن جمعة الفلاسي باعتراف بلاد الفرس بتبعية الجزيرة إلى إمارة دبي. من جهة أخرى، دخلت إمارة أبوظبي (بني ياس) طرفاً في الحرب الدائرة ضد بلاد الفرس واعلنت الحرب على بلاد الفرس عام 1834، وشكلّت الأساطيل البحرية بقيادة أخو الحاكم الشيخ سلطان بن شخبوط لمهاجمة البحرية الإيرانية. وعلى الفور تمكن الأسطول الظبياني من تدمير ما لا يقل عن 17 سفينة إيرانية في عرض الخليج العربي عام 1835، الأمر الذي شكل فزعاً جديداً لبلاد الفرس وحاكمها محمد شاه الذي تسلم السلطة الإيرانية اعتباراً من العام 1833، حيث كانت الدولة الإيرانية تعرف عدوها اللدود الدولة القاسمية، ولكنها ها هي الآن تتفاجأ بعدو جديد لها وهي الدولة النهيانية تحديداً في العام 1835. وعندما لاحظت الدولة البريطانية القوة البحرية الجديدة لإمارة أبوظبي، قررت حماية الفرس من أبوظبي، وأطلقت العنان لسفنها الحربية المتطورة لمهاجمة السفن الظبيانية، أي أن بريطانيا كانت تحارب بالنيابة عن إيران، وتمكنت من تدمير أعداد من السفن الظبيانية. ثم فرضت الدولة البريطانية معاهدة جديدة مع إمارات أبوظبي ودبي والشارقة وعجمان عام 1835 للحد من الصراع بين إمارات الساحل وبلاد الفرس وتحديد الحدود البحرية بين إمارات الساحل وبلاد الفرس، وهذا ما رفضته إمارات الساحل، بحكم أن الجنوب الشرقي الإيراني وسواحله وجزره من ممتلكات إمارات الساحل (دولة الإمارات العربية المتحدة اليوم).

كانت الدولة البريطانية بمثابة “الغصة في البلعوم” بالنسبة لإمارات الساحل! ولم تكتفي بمنع السفن الإماراتية من مهاجمة بلاد الفرس، بل كانت تضايق إمارات الساحل في مسألة تجارة العبيد الأفارقة، وتحرم تجارة العبيد، بينما لا تحرمها لدى وليدتها “الولايات المتحدة الأمريكية”! واستمرت الدولة البريطانية في فرض المعاهدات مع إمارات الساحل المحرمة لتجارة العبيد الأفارقة منذ العام 1838. كما شهد هذا العام أيضاً 1838 سقوط الدولة السعودية الثانية على يد القوات المصرية.

لو أن إمارات الساحل توحدت ضد الأعداء المتربصين بهم لما تزعزعت القوات المحلية إطلاقاً، ولكن المشكلة أن إمارات الساحل كانت تتصارع بينهم البين بسبب أو حتى بدون سبب، الأمر الذي أدى إلى إزدياد رغبة الدولة المجاورة لمحاربة إمارات الساحل المنشغلة في حروبها الأهلية، وعلى مدى السنوات اللاحقة كانت الحروب الأهلية مستمرة، هذا بخلاف الانقلابات الداخلية على الحكم، وكذلك تحول الصراع على ممتلكات إمارات الساحل في البر الفارسي بين مختلف الإمارات، مثل الصراع الذي حدث بين الشارقة وعجمان وأم القيوين على أراضٍ متنازع عليها في بر فارس عام 1841.

في العام 1845 تعرضت إمارة أبوظبي لنكسة جديدة، حيث تعرض حاكمها الشيخ خليفة بن شخبوط للاغتيال من قبل بعض أفراد الاسرة الحاكمة، وتدهور الوضع في الإمارة بشكل خطير، ولم يستطع الانقلابيين من السيطرة على الوضع المتدهور، خاصة وأن الإمارة تعاني من غزوات الوهابيين، ولم يهدأ الوضع إلا بعد تسلّم القائد الظبياني الأسطورة الشيخ سعيد بن طحنون بن شخبوط الفلاحي لزمام السلطة في العام نفسه 1845.

الحلقة (11)

بمجرد أن استلم الشيخ سعيد بن طحنون مقاليد الحكم في أبوظبي أظهر عداؤه لبقية إمارات الساحل المستقلة، وتميزت علاقته بالفتور مع الإمارات الصغيرة، واندلعت الحرب الأهلية مجدداً بين إمارات الساحل عام 1846. من جهة أخرى، نجحت الدولة البريطانية عام 1847 من فرض معاهدة منع تجارة العبيد على جميع إمارت الساحل وكذلك جزيرة البحرين كانت من الدول التي وقعت المعاهدة، ووعد شيوخ إمارات الساحل بريطانيا بالالتزام بتلك الاتفاقية المجحفة في حقهم.

على الرغم من العداء الذي أظهره الشيخ سعيد بن طحنون حاكم أبوظبي ضد بقية إمارات الساحل، إلا أن يُحسب لابن طحنون دهائه العسكري والانتصارات التاريخية التي حققها ضد القوات الوهابية، واعتباراً من العام 1848 اندلعت المعارك بين قوات بني ياس والقوات الوهابية والتي استمرت على مدى الأعوام التالية، ومن اشهر المعارك المميتة التي حصلت بين الجيشين الظبياني والسعودي معركة “العانكة”، وهي موقع بئر للمياه في صحراء الظفرة، حيث أطبقت قوات أبوظبي على الجيش السعودي ومزقته ارباً ولم تُبقي منهم سوى ثلة قليلة استطاعت الهرب بأعجوبة من المذبحة، وكذلك استمرت الأوضاع السياسية متأزمة في سلطنة عُمان والتي كانت أيضاً تعاني من الحرب الأهلية هي أيضاً، هذا بالإضافة إلى هجمات إمارة القواسم المستمرة ضد عُمان، واستطاعت قوات الشارقة من احتلال مدينة شناص العمانية وإعادتها إلى ممتلكات إمارة القواسم من جديد عام 1850، وبهذا وفي هذا العام تحديداً عاد ساحل الشميلية (الفجيرة اليوم) إلى ملك الشارقة – العاصمة الجديدة لإمارة القواسم – بعد احتلال عُماني طويل لها، ولكن سلطان عُمان السيد سعيد بن سلطان سرعان ما جمع قواته وشكل كتائب عسكرية كثيرة وهاجم القوات القاسمية بكثافة شديدة، واستطاع طرد القوات القاسمية من شناص، ولكن الفرحة العمانية لم تستمر، حيث قام حاكم دبي الشيخ مكتوم بن بطي بمهاجمة مدينة شناص بقيادة ابنه الشيخ حشر الذي احتلها بعد أن عجزت الدفاعات العمانية من صد هجمات جيش دبي، وبعد هذا الانتصار لم يكن الشيخ مكتوم راغباً في الاحتفاظ بالمدينة، فقام بتسليمها إلى الثوار العمانيين الثائرين على سعيد بن سلطان حاكم عُمان. من جهة أخرى، تمكن الشيخ سعيد بن طحنون حاكم أبوظبي من طرد القوات السعودية من مدينة البريمي، وغادروها عام 1850، ولكن الحملات الوهابية بقت مستمرة ولم تتوقف.

على إثر الانهزام السعودي أمام القوات الظبيانية، وجهتّ السعودية عام 1851 حملاتها نحو قطر والبحرين، ودافعت قطر دفاعاً مستميتاً ضد الوهابيين لكنهم خسروا المعارك لعدم تكافؤ القوتين، وكانت البحرين مدركة أنها ستستباح بكل سهولة أمام الوهابيين، فكتب أهلها رسالة استغاثة إلى الشيخ سعيد بن طحنون يطلبون منه اغاثتهم من الوهابيين، فجهّز ابن طحنون حملة بحرية ضخمة تحت قيادته، وقام بمحاصرة جزيرة البحرين استعداداً للقيام بعملية إنزال عسكري في الجزيرة، ولكن الشيخ سعيد بن طحنون فوجيء بوفد سعودي رفيع المستوى جاء إلى سفينته يطلب الصلح، فأجابه الشيخ سعيد بالصلح شريطة خروج القوات السعودية من قطر والبحرين، وهذا ما تم وانسحبت القوات الظبيانية من دون إطلاق رصاصة واحدة، أي أن إمارة أبوظبي لها فضل تاريخي على قطر والبحرين، فلولا الشيخ سعيد بن طحنون لكانت الدولتين تابعتين اليوم إلى السعودية.

شهد العام 1852 وفاة حاكم دبي الشيخ مكتوم بن بطي، ولكن قبل وفاته شعر هذا الحاكم الداهية الشديد الذكاء أنه على وشك الرحيل، ولم يكن راغباً على البقاء في حالة عداء مع موطنه الأصلي أبوظبي، فقام بمصالحة حاكم أبوظبي الشيخ سعيد بن طحنون واتفقا على الصلح ونبذا الخلاف الذي كان بينهما، وذلك في مدينة مسقط العمانية في اجتماع صلح جمع بعض حكام إمارات الساحل وسلطان عُمان والمقيم السياسي البريطاني صامويل هينيل، ووافقت إمارة القواسم على إنهاء حالة الحرب مع سلطنة عُمان مقابل اعتراف السلطنة بتبعية ساحل الشميلية (الفجيرة) إلى الشارقة، وهذا ما تم الاتفاق عليه، وأثناء رحيل الشيخ مكتوم في سفينته سرعان ما أدركه مرض الجدري وتوفي في سفينته، ثم تم دفنه في مدينة شناص العمانية.

في العام 1853 قامت القوات الإيرانية بمهاجهة مدينة بندر عباس – التابعة لسلطنة عُمان – الأمر الذي دفع بحاكم الشارقة الشيخ سلطان بن صقر بالتوجه إلى مدينة لنجة استعداداً لأية مواجهة عسكرية مرتبقة بين القوات القاسمية والإيرانية، وكان حاكم لنجة القاسمي العجوز الشيخ سعيد بن قضيب القاسمي في غاية التعب والارهاق من الحملات الفارسية التي انهكته على مدى السنوات السابقة، وتوفي في العام نفسه ليخلفه ابنه خليفة حكم مدينة لنجة. ثم ما لبثت القوات الفارسية من قهر القوات العمانية في بندر عباس ودفعتها للهرب من ميناء المدينة عام 1854، ومن دناءة الفرس أنهم كانوا يقطعون رؤوس القتلى من الجنود العمانيين ويعلقونها على الرماح في استعراض عسكري يعكس مدى وحشيتهم. من جهته، أمر سلطان عُمان سعيد بن سلطان بتجهيز حملة بحرية لمحاربة الفرس، واستطاعت الحملة العمانية من تدمير الحاميات العسكرية الفارسية وإبادتها عن بكرة أبيها، واستعادت مدينة بندر عباس من جديد من الفرس، مع العلم أن الشيخ سعيد بن طحنون جهّز هو الآخر حملة بحرية عسكرية لمهاجمة بلاد الفرس بحجة المجازر التي ارتكبتها الدولة الإيرانية بحق العرب في البر الفارسي ولكن بريطانيا تدخلت ومنعت ابن طحنون من التدخل في شأن يخص إمارة القواسم وسلطنة عُمان وبلاد الفرس وحدهم، ولا شأن لابن طحنون في الأمر، حسب ما تقول بريطانيا.

استطاع حاكم أبوظبي الشيخ سعيد بن طحنون أن يثبت كفاءته ونجاحه الكبير في قهر جيوش خصومه على مدى 10 سنوات من استلامه لحكم إمارة بني ياس اعتباراً من العام 1845، ولكن وللأسف أصيب الشيخ سعيد بن طحنون بلوثة عقلية أقرب إلى الجنون عام 1855، فحدث هرج ومرج في مدينة أبوظبي وشعر الحاكم أنه في تحدٍ أمام أهالي أبوظبي، الأمر الذي دفع بالأسرة الحاكمة إلى تسليم سدة الحكم إلى ابن عم الحاكم الشيخ زايد بن خليفة بن شخبوط الفلاحي، المعروف بزايد الكبير وزايد الأول، وهو جد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فيما غادر الشيخ سعيد بن طحنون أبوظبي وتوجه إلى جزيرة قيس القريبة من البر الفارسي، والتي هي في الأصل من ملحقات إمارة أبوظبي. من جهة أخرى، كانت إمارة القواسم تعاني بشدة من الحركات الانفصالية الراغبة في الانفصال من الحكم القاسمي، بينما الحاكم العجوز سلطان بن صقر عاجزاً عن درء كل هذه الصراعات التي انهكته، خاصة وأن اثنين من ابنائه توفيا في الحروب وهم صقر عام 1846 ثم عبدالله عام 1855، ولكن له ابناء وأحفاد آخرين يستعين بهم، ثم تعرض لنكسة أخرى حاكم إمارة القواسم، وهي المحاولة الانفصالية لولاية مسندم القاسمية الواقعة على رأس مضيق هرمز، حيث قام أهاليها بثورة ضد الحكم القاسمي، مع العلم أن منطقة رأس مسندم هي في الأصل تابعة لإمارة القواسم قبل أن تستولي عليها الدولة العمانية.

في العام 1856 تعرضت الدولة العمانية لنكسة عظيمة بوفاة السلطان العماني الأسطورة السيد سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد آل بوسعيدي عندما كان في طريقه من مسقط إلى جزيرة زنجبار، وتم دفنه في زنجبار، ثم شهدت مدينة مسقط حالة من العزاء لا مثيل لها في التاريخ العماني، وقام أعداد من الملوك والشيوخ من مختلف دول المنطقة بالحضور إلى مسقط للقيام بواجب العزاء، وعلى رأسهم حاكم إمارة بني ياس الشيخ زايد بن خليفة (زايد الكبير)، كما شهد هذا العام أيضاً مقتل الشيخ سعيد بن طحنون الحاكم السابق لأبوظبي برصاص أهالي أبوظبي عندما حاول ابن طحنون القيام بمحاولة انقلابية على الشيخ زايد بن خليفة، ولكن حاكم دبي الشيخ سعيد بن بطي ساعد حاكم أبوظبي وجهز له حملة عسكرية لمواجهة الحاكم السابق. في الحقيقة، كان حاكم إمارة القواسم الشيخ سلطان بن صقر هو من وقف مع ابن طحنون وموله وجهز له حملة بحرية لاقتحام أبوظبي، وعندما اكتشفت السلطة البريطانية مؤامرة ابن صقر فرضت عليه غرامة مقدارها 25 ألف روبية هندية يدفعها لحاكم أبوظبي.

بعد وفاة سلطان عُمان الشهير سعيد بن سلطان انقسمت الدولة العمانية إلى دولتين وهما سلطنة عُمان وجزيرة زنجبار، حيث كان السيد ماجد بن سعيد يحكم زنجبار بينما السيد ثويني بن سعيد يحكم عُمان، وهذا الأمر ساهم في انشقاق الدولة العمانية، حيث كانت إمارة القواسم لا تزال في حالة حرب مع الدولة العمانية.

في العام 1859 توفي حاكم دبي الشيخ سعيد بن بطي بسبب تفشي مرض الجدري في المنطقة، وبعد وفاته تم مبايعة ابن أخيه الشيخ حشر بن مكتوم بن بطي الفلاسي ليكون الحاكم الجديد على إمارة دبي. من جهة أخرى، كان حاكم إمارة القواسم العجوز سلطان بن صقر عاجزاً عن إنهاء حالة العداء التي انتابت ابنائه واحفاده بينهم بيناً وتصارعهم على الحكم في ظل كبر سن الحاكم ومرضه، مع العلم أن سلطان بن صقر قد اصيب بالعمى في السنوات الأخيرة من حياته. من جهة ثانية، كانت الصراعات الداخلية مستمرة في الدولة العمانية بين ابناء واحفاد سلطان عُمان السابق سعيد بن سلطان، وشهدت مجازر وحروب أهلية على مدى السنوات اللاحقة. وفي العام 1866 توفي الحاكم القاسمي العظيم والاسطورة القاسمية التي لا مثيل لها في تاريخ إمارة القواسم الأمير سلطان بن صقر القاسمي عن سن يناهز 103 سنوات، بعد حياة حافلة بالمغامرات والحروب والنكسات، ولكنه في الأخير يعتبر أعظم حاكم من حكام إمارة القواسم حتى يومنا هذا.

بعد وفاة أمير القواسم انفصلت الشارقة عن رأس الخيمة لأن نجل الحاكم السابق الشيخ خالد استأثر بالحكم لوحده في الشارقة، بينما رفض أخيه ابراهيم في رأس الخيمة الاعتراف بأخيه حاكماً على إمارة القواسم، فانفصل برأس الخيمة عن الشارقة، ثم سرعان ما قامت قبيلة الشرقيين في الفجيرة القيام بحركة عصيان ضد القواسم مطالبين بالانفصال من السلطة القاسمية. وعلى العموم تعرضت الإمارة القاسمية للكثير من النزاعات والحروب الداخلية بسبب الصراع على الحكم بين أبناء وأحفاد الحاكم السابق سلطان بن صقر، ولكن الغلبة في النهاية ذهبت لصالح الشيخ خالد بن سلطان بن صقر. ولكن الشيخ خالد القاسمي لم يهنأ بالحكم كثيراً، حيث أعلن حاكم أبوظبي الشيخ زايد بن خليفة الحرب عليه، وقام بتجهيز حملة برية بحرية كبيرة ضد الشارقة، فكانت معركة رهيبة للغاية في مدينة الشارقة بين الجيشين القاسمي والظبياني، وكان الحاكم القاسمي يقاتل بكل ما أوتي من قوة بسيفه وبندقيته، وفي أرض المعركة تقاتل كلاً من حاكم الشارقة وأبوظبي معاً وجهاً لوجه، وحاول الشيخ خالد أن يطلق من بندقيته رصاصة تجاه الفارس الشيخ زايد بن خليفة ولكن الرصاصة أخطأت وأصابت الحصان، وسقط الشيخ زايد من فرسه، واستجمع قوته وحمل سيفه ووقف وجها لوجه أمام الشيخ خالد بن سلطان بن صقر، وتبادلا الضرب بالسيوف، فكان الشيخ زايد أكثر قوة وتمكن من ضرب الشيخ خالد الذي أصيب بجرح غائر، ثم انسحب من أرض المعركة وبقي طريح الفراش لأيام عدة متأثراً بضربة سيف الشيخ زايد بن خليفة حتى توفي متأثراً بجراحه، وذلك في العام 1868، فأصبح أخيه الشيخ ابراهيم بن سلطان حاكماً لإمارة القواسم، وهذا ما لم يعجب أطراف كثيرة في الاسرة القاسمية، وسرعان ما دبت الفوضى بين أفراد الاسرة والحروب والنزاعات بينما العدو الفارسي على أحر من الجمر للقيام بأعمال عسكرية ضد الأراضي القاسمية في البر الفارسي.

نلاحظ هنا أن الصراعات الداخلية والحروب الأهلية في إمارات الساحل وسلطنة عُمان هي المتسبب الأكبر في إنهزامها لاحقاً أمام العدو الفارسي. وقد تكون بعض الحقائق التاريخية مؤلمة بالنسبة للمواطن الإماراتي، ولكننا اليوم ابناء اليوم وتلك الأحداث كانت في الماضي ولن تؤثر على وحدتنا الأبدية أو ولائنا لوطننا الغالي.

الحلقة (12)

بقيت الحروب الأهلية مستمرة في إمارات الساحل وسلطنة عُمان في العام 1870 بين الحزبين الغافري والهنائي في الإمارات وعُمان، وبخلاف الحروب الداخلية كانت الإمارات تحارب جبهات خارجية من بلاد الفرس والسعودية، كما شهد هذا العام مصرع إمام عُمان عزان بن قيس بن عزان وأصبح الامام الجديد لعُمان تركي بن سعيد بن سلطان. كما تعرضت إمارة أبوظبي في العام 1871 لاضطرابات داخلية جديدة بعد محاولة قبيلة القبيسات الانفصال عن الإمارة وتأسيس إمارة مستقلة بالقرب من الحدود القطرية، ولكنهم فشلوا بسبب يقضة الشيخ زايد الكبير، خاصة بعد انضمام قطر في العام نفسه إلى الدولة التركية واصبحت مقاطعة تركية، الأمر الذي شكل تهديداً جديداً لإمارة أبوظبي.

في العام 1872 اصدرت البحرية البريطانية خرائط بحرية أظهرت أن جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى وجزيرة صيري من ممتلكات إمارة لنجة القاسمية، أي أنها تتبع إمارات الشارقة ورأس الخيمة، وهذه الخرائط لا تستطيع الدولة الإيرانية انكارها، ولا تزال موجودة في الارشيف البريطاني وارشيف مركز الوثائق والبحوث في العاصمة أبوظبي، ولكن إمارة أم القيوين اعترضت على الاعتراف البريطاني بملكية أبوموسى إلى الشارقة مدعية ملكيتها للجزيرة، الأمر الذي أدى إلى نشوب الخلافات الحدودية بين إمارات الساحل، هذا بالإضافة إلى الخلاف المستمر مع الدولة الإيرانية التي لم تكف أذاها عن إمارات الساحل، فيما كانت إمارات الشارقة ورأس الخيمة تحشد قواتها في الجزر القاسمية، ثم باغتت إمارة أم القيوين بهجوم عسكري على إمارة الشارقة ولكن قوات أم القيوين لم تكن بذلك الند القادر على مواجهة قوات الشارقة، فارسل الشيخ أحمد بن عبدالله المعلا حاكم أم القيوين إلى حاكم أبوظبي الشيخ زايد الكبير يطلب منه العون العسكري ضد الشارقة، فلبى الشيخ زايد الطلب وارسل السرايا العسكرية من خيالة وهجانة، ووقعت الاشتباكات من جديد ما بين قوات أبوظبي والشارقة، قُتل خلالها 50 مقاتلاً من الشارقة فيما قُتل قائد الحملة الظبيانية وابن عم الحاكم الشيخ خليفة بن هلال بن شخبوط، وانسحبت قوات أبوظبي.

فوجيء الشيخ زايد الكبير في العام 1874 برسالة من الدولة التركية تفيد أن مقاطعة العديد الظبيانية إنما من ممتلكات الدولة التركية بناء على طلب قبيلة القبيسات التي انفصلت عن أبوظبي واستقطعت منطقة العديد من أبوظبي وأعلنوا تبعيتهم للدولة التركية، حينها استشاط الشيخ زايد الكبير غضباً، وعقد العزم على تلقين الأتراك درساً عسكرياً غليظاً، يُذكر أنه لولا ممارسة الدولة البريطانية الضغط عليه بضبط نفسه من القيام بأية حملة عسكرية ضد العديد لقام بهذا العمل منذ ما لا يقل عن اربع سنوات من انفصال العديد. من جهة ثانية، شهد العام 1874 أيضاً وفاة حاكم لنجة الشيخ خليفة بن سعيد القاسمي، الأمر الذي شكل ارباكاً للسلطة القاسمية في لنجة، واستغلت الدولة الإيرانية الوضع لصالحها وتحكمت في سلطة الجمارك، وأصبحت الجمارك الإيرانية هي الجهة المتحكمة في الشؤون الجمركية في البر الفارسي بأكمله بعد أن كانت سلطة جمارك لنجة مختلفة عن بقية الجمارك الإيرانية، ومع إزدياد حالة التحكم الإيرانية، قامت العديد من الاسر العربية الأصل بالعودة إلى موطنها الأصلي في إمارات الساحل لعدم وجود سلطة قاسمية حقيقية في لنجة، حيث أن مشاكل إمارة القواسم من كثرتها كانت عاجزة عن تدبير الحماية لممتلكاتها في البر الفارسي، خاصة مع المحاولة الانفصالية الجديدة لمقاطعة الفجيرة القاسمية، حيث حاولة الفجيرة الانفصال عن السلطة القاسمية في العام 1876 بقيادة الشيخ حمد بن عبدالله الشرقي، ولكن القواسم اخمدوا حركة المعارضة الشرقية بعد تعاون عسكري بين إمارتي الشارقة ورأس الخيمة ضد قبيلة الشرقيين الفجيرية.

عودة إلى قضية العديد، التي انفصلت عن الدولة النهيانية بقيادة بطي بن خادم القبيسي والذي لم يكتفي بالانفصال، بل قام بمهاجمة السفن الظبيانية في تحد واضح ضد زايد الكبير، حينها ايقن زايد الكبير أن لا فائدة ترجى من الدولة البريطانية التي ضغطت عليه كثيراً كي لا يهاجم العديد، ولكنه تجاهل البريطانيين وارسل 70 سفينة مقاتلة تحت قيادته الشخصية إلى منطقة العديد وأبادها عن بكرة أبيها ودمر الحامية التركية وحرق الأعلام التركية، مع العلم أن أهالي العديد غادروا بأكملهم إلى إمارة قطر وطلبوا اللجوء السياسي إليها، ولهذا السبب عندما وصل زايد الكبير إلى العديد لم يجد فيها أي كائن حي فأكتفى بتدميرها وإعادتها إلى إمارة أبوظبي. مع العلم أن قبيلة القبيسات عادت إلى سلطة أبوظبي عام 1880 وأظهر شيخها بطي بن خادم ندمه وطلب العفو من الشيخ زايد الكبير على ما اقترف من ذنب تجاه الحاكم الظبياني الكبير زايد بن خليفة، فعفى عنه زايد الكبير، بل أنه وهبه وقومه العطاء.

السؤال الآن: أين هي منطقة العديد الآن من خارطة دولة الإمارات العربية المتحدة؟

للأسف الشديد، لقد تنازلت دولة الإمارات عن العديد ووهبتها للدولة السعودية عام 1974 في اتفاقية مجحفة للغاية!

عودة إلى لنجة؛ كانت لنجة تعاني من غياب السلطة القاسمية وتحديداً عام 1878، كما أن ابناء الحاكم المتوفى من القُصر الذين من الصعب عليهم استلام زمام الأمور في تلك المقاطعة القاسمية، فتم تعيين وصي على الحكم اسمه يوسف بن محمد، وقام هذا الشخص بالاستئثار على الحكم متجاوزاً الصلاحيات التي مُنحت له، بل أنه حاول اغتيال ابناء الحاكم السابق على لنجة الشيخ خليفة بن سعيد القاسمي، ونجح في اغتيال نجل الحاكم الطفل علي بن خليفة، الأمر الذي احدث نوع من الاستنكار بين أهالي لنجة، فاستغلت الدولة الإيرانية الوضع وفرضت نوع من السيطرة على المدينة، خاصة أن سكان المدينة العرب غير راغبين في الوجود الأعجمي بينهم، وطالبوا بطردهم من المدينة، بينما إمارتي الشارقة ورأس الخيمة عاجزتان عن فرض سيطرتها على لنجة بسبب استمرار حروبهما مع حركة الانفصال الفجيرية ويوسف بن محمد يسيطر على لنجة، ووضع يده بيد الفرس ضد السكان العرب في المدينة.

في الفجيرة، استعانة قبيلة الشرقيين بعدد كبير من المقاتلين البلوش، ولكن البلوش انقلبوا على الشرقيين واحكموا سيطرتهم على قلعة الفجيرة العسكرية فيما هرب قادة الشرقيين إلى سلطنة عُمان خوفاً من بطش القواسم بهم، ومن تبقى من قبيلة الشرقيين تم نفيهم إلى جزيرة أبو موسى. من جهته، قام سلطان عُمان تركي بن سعيد البوسعيدي بمبادرة للصلح ما بين الشرقيين والقواسم، ونجح في ذلك، وفي العام 1881 عادت الفجيرة إلى السلطة القاسمية من جديد، كما شهد هذا العام أيضاً إندلاع الحرب أيضاً بين إمارة أبوظبي وإمارة قطر، وأدعّت الأخيرة أن منطقة العديد إنما من ممتلكات إمارة قطر!

الجزر الإماراتية كانت في حالة يرثى لها مع غياب السلطة القاسمية لها، وبالطبع استغلت بلاد الفرس الوضع وفرضت نوع من السيطرة على الجزر في الخليج العربي، بينما إمارات الساحل منشغلة – وعلى العادة – في حروبها الأهلية، بل أن الدولة البريطانية كانت عاجزة هي الأخرى في تحديد الممتلكات والحدود بين مختلف إمارات الساحل، فكل إمارة كانت تدعي ملكيتها لجزر أو أراضٍ معينة، وكالعادة كانت بلاد الفرس في غاية السعادة من تدهر الوضع في إمارات الساحل.

في العام 1883 تعرضت إمارة الشارقة لمشكلة أخرى، حيث وقع إنقلاب ضد الحاكم الشيخ سالم بن سلطان القاسمي من قبل ابن أخيه الشيخ صقر بن خالد بن سلطان القاسمي، وبعد نجاحه في فرض سيطرته على إمارة القواسم، أعلنت مقاطعة مسندم القاسمية رغبتها في الانفصال عن الحكم القاسمي، واستمرت الحروب، وتم تدمير معاقل البلوش الذين حاولوا السيطرة على القلاع العسكرية في الفجيرة عام 1884، ثم أبدت الشارقة اهتماماً بالجزر الإمارتية في الخليج العربي تخوفاً من أية سيطرة إيرانية عليها، وذلك بالتعاون مع أمير إمارة دبي الشيخ حشر بن مكتوم وأمير أبوظبي الشيخ زايد الكبير.

في العام 1885 شعرت الأسرة القاسمية بالخطأ من تركها المدعو يوسف بن محمد من السيطرة على الوضع السياسي على إمارة لنجة، وقامت بحركة إنقلاب عليه بقيادة الشيخ قضيب بن راشد القاسمي، ونجح بالفعل على طرد الإيرانيين المستعربين من السيطرة على مدينة لنجة وأحل محلهم العرب القاسميين، وأعلن تبعيته المطلقة لإمارة القواسم، ولكن الوضع السياسي في إمارات الساحل لم يكن مشجعاً على استمرارية فيما بينهم، بل أن الحرب الأهلية بين مختلف الإمارات لا تزال مستمرة في العام 1886. حينها، تدخل الشيخ زايد الكبير لوقف الحرب الأهلية في إمارات الساحل وتشجيع حكامها على المصالحة، ونجح بالفعل في ذلك، ولكن بمجرد نجاح مبادرة زايد الكبير اندلعت الحروب الأهلية مجدداً، الأمر الذي أدى إلى ازدياد حالة الضعف القاسمية أمام العدو الفارسي. كما أن زايد الكبير لم يكن قادراً لوحده من لم شمل إمارات الساحل وانشغل بعدو جديد وهي الدولة التركية، حيث تلقى تهديدات من الدولة التركية والتي طالبته بإعادة منطقة العديد، منددة ومتوعدة بالأعمال العسكرية التي قام بها الكبير ضد الحامية التركية في العديد، وقامت بإرسال بإرسال مدمرة تركية إلى العديد، بالإضافة إلى جيوش قطرية لاحتلال العديد من جديد، ولكن الدولة البريطانية منعتهم. بينما الدولة الفارسية لا تزال مستمرة على استغلال الوضع المتدهور في إمارات الساحل وبسطت نفوذها على الأراضي الإماراتية في البر الفارسي عام 1887.

أعلنت الدولة الإيرانية عام 1887 الحرب رسمياً على إمارة القواسم، وقامت بتسيير أساطيلها البحرية لدك مدينة لنجة، وتمكنت من احتلالها في معارك غير متكافئة بين الجيشين القاسمي والفارسي، وتمكن الفرس من احتلال الأراضي المجاورة وما حول مدينة لنجة، وأصبحت في حوزة الفرس، ولكن المدينة بقت تحت الحكم القاسمي مع اعتراف الفرس بالشيخ محمد بن خليفة القاسمي حاكماً على مدينة لنجة، أما ضواحي المدينة فقد أصبحت تحت الحكم الفارسي.

كانت الدولة الإيرانية على علم بأن إمارات الساحل لن تسكت على هجمات الفرس وسيقومون برد عسكري كاسح، فقامت بإرسال الرسل إلى الإمارات من أجل إبرام معاهدات الصداقة بدلاً من الدخول في حروب مستمرة منذ مئات السنين. من جهة أخرى، وبكل أسف، أعلن حاكم جزيرة القسم حسن بن محمد المعيني تبعيته إلى الدولة الإيرانية، مبدياً رغبته في عدم بقائه تحت الحكم القاسمي، ووضع قواته تحت أوامر الفرس، وقام بضم جزر طنب الكبرى والصغرى إلى الحكم الإيراني، ثم سرعان ما أعلنت الدولة الإيرانية أن مدينة لنجة أيضاً من ممتلكاتها ولا حق لإمارة القواسم فيها، رغم اعترافها بالشيخ محمد بن خليفة حاكماً عليها، بينما السكان العرب في البر الفارسي بدأوا في الفرار والهجرة من البر الفارسي إلى العربي.

لقد تسببت الدولة البريطانية بشكل مباشر في النجاح الفارسي بالسيطرة على الجزر الإماراتية لأنها كانت تمنع إمارات الساحل القيام بأية أعمال عسكرية ضد الفرس، وكذلك كانت ممتنعة عن الرد على احتجاجات حكام إمارات الساحل المطالبة بإعادة الأراضي الإماراتية المحتلة لدى الفرس، وحاولت بريطانيا التفاوض مع الفرس ولكنهم رفضوا العروض البريطانية بشكل قاطع.

الحلقة (13)

في العام 1888 ازدادت العنجهية الفارسية وقامت ترسل دورياتها البحرية حول الجزر الإماراتية المحتلة وميناء لنجة بغرض جباية الضرائب والرسوم الجمركية على السفن في استفزاز واضح ضد إمارات الساحل، وقامت الدولة الإيرانية بإرسال الخطابات إلى السلطة البريطانية مدعية تبعية الجزر ولنجة إلى بلاد الفرس وليس إمارات الساحل، وهذا ما رفضته إمارة الشارقة، وبقي الوضع متأزماً من دون دخول الأطراف المختلفة في حرب جديدة، ولكن الدولة الفارسية استطاعت من تطوير أساطيلها البحرية وعظمتها بالسلاح الحديث من روسيا وأبرمت معها معاهدة صداقة ودفاع مشترك من أجل التخلص من السيطرة البريطانية على منطقة الخليج. وشهد هذا العام أيضاً وفاة سلطان عُمان السيد تركي بن سعيد، فآلت السلطة إلى نجله فيصل بن تركي بن سعيد. من جهة أخرى، كانت الحرب بين إمارة أبوظبي وإمارة قطر على أشدها، مع العلم أن الدولة التركية كانت تدعم قطر بشكل كبير وتمدها بالعتاد والعدة، ولكن إمارة قطر جنّت على نفسها وتسببت بمغامرتها المجنونة بالدخول في حرب مع الشيخ زايد الكبير في تدمير عاصمتها الدوحة، حيث قامت قوات أبوظبي في يوم 14 يونيو 1888 بعملية إنزال بحري في الدوحة أحرقت ودمرت المدينة وأبادتها عن بكرة أبيها. مع العلم أن الشيخ الكبير قد أمهل الدولة التركية أن تقوم بدفع تعويضات بسببها هجمات ولايتها قطر على بعض أقاليم أبوظبي، وعندما أمتنعت تركيا عن دفع التعويضات قام الكبير بتلك الحملة ضد قطر.

في العام 1889 طلبت قطر من الدولة السعودية مساعدتها في حربها ضد أبوظبي، فارسلت الأخيرة جيشاً سعودياً، واستطاع التحالف القطري السعودي أن يحقق إنتصارات في صحراء الظفرة الظبيانية، حينها وجه زايد الكبير رسائل إلى بقية حكام إمارات الساحل يطلب مساعدتهم ضد هؤلاء الدخلاء على إمارات الساحل، حيث خسرت أبوظبي نحو 70 مقاتلاً من المعارك الدائرة في الظفرة. وتم تشكيل تحالف ثلاثي بين إمارتي أبوظبي ودبي وسلطنة عُمان للهجوم على قطر وإعداد جيش قوامه 8000 مقاتل. من جهتها، أعلنت الدولة التركية أنها ستحارب أبوظبي إذا ما قامت بمهاجمة قطر، فيما وضعت الدولة السعودية نحو 5000 مقاتل سعودي تحسباً لأي هجوم ظبياني ضد قطر.

كانت الحملة الظبيانية بقيادة الشيخ زايد الكبير نفسه وكذلك حاكم دبي الشيخ راشد بن مكتوم، وفي شهر ابريل من العام 1889 اندلعت المعارك في مختلف الأراضي القطرية وأجزاء من الاحساء في السعودية، وبلغ عدد قتلى الجيش القطري في البداية أكثر من 300 قتيل، وكادت أن تتعرضت إمارة قطر للدمار الكبير، لولا إرسال الحاكم التركي في منطقة الاحساء عاكف باشا رسالة إلى الشيخ زايد الكبير يرجوه باسم الدين الإسلامي أن يوقف الحرب، وعندما تسلم الشيخ زايد الرسالة رقّ قلبه وتأثر كثيراً، ثم أمر بسحب قواته وإنهاء حالة الحرب مع قطر، ولكن قطر لم تقدّر ولم تحترم مبادرة الشيخ زايد الإنسانية واستمرت في مضايقاتها ومناوشاتها وتوغلاتها في المناطق الحدودية التابعة لأبوظبي. من ناحية أخرى، في العام 1894 توفي حاكم دبي الشيخ راشد بن مكتوم، وتسلم السلطة من بعده في دبي ابن اخيه الشيخ مكتوم بن حشر بن مكتوم.

عودة إلى البر الفارسي، حيث استطاع قائد القوات البحرية الإيرانية أحمد خان من السيطرة على الموانيء القاسمية، مع بقاء الشيخ محمد بن خليفة القاسمي حاكماً قاسمياً على لنجة، وعندما شعر ابن خليفة بمدى طغيان الفرس، وتوقف إمارتي الشارقة ورأس الخيمة عن مواجهة إيران، قرر حشد أتباعه في لنجة وضواحيها والجزر العربية واستعادة السيطرة على المناطق العربية في البر الفارسي، واستطاعوا تدمير الحاميات الإيرانية وقتل اعداد من الجنود الفرس واسر الباقين، وإعلان الشيخ محمد بن خليفة عن نفسه حاكماً على لنجة، وعودة تبعيتها إلى إمارة الشارقة، الأمر الذي دفع الدولة الإيرانية للانتقام بإرسال أساطيلها البحرية بقيادة أحمد خان.

كان الفرس يدركون أن في العام 1899 فرصة ذهبية لاسقاط الحكم القاسمي في الساحل الفارسي بسبب الصراعات والمشاكل الداخلية في مشيخات الإمارات، وكذلك الدعم البريطاني الكبير لإيران ضد الإمارات، وقبل الغزوة الإيرانية فاوض قائد الأساطيل الإيرانية أحمد خان حاكم لنجة محمد بن خليفة القاسمي يعرض عليه مبلغ 12 ألف تومان إيراني مقابل تسليم لنجة بدون حرب، على أن يعود الحاكم إلى بلاده في الساحل الإماراتي بحكم أن لنجة – حسب قول الفرس – أرض إيرانية قام القواسم باحتلالها منذ القرن السادس عشر، رغم اعتراف السلطات الفارسية بملكية بعض مشيخات الإمارات للعديد من المقاطعات المقابلة للساحل الإماراتي عام 1631، ولكن ذلك الحاكم الإماراتي محمد بن خليفة أبا أن يطأطيء رأسه لهذا الفارسي المغرور، أو أن يبيع أرضه وأرض أجداده بهذا المبلغ التافه، على أمل أن تأتيه النجدات من الساحل الإماراتي لكن البريطانيين مهدوا الطريق أمام الأساطيل الإيرانية لغزو لنجة، حيث فرضت بريطانيا حصاراً على جميع مشيخات الإمارات وطوّقت سفنها ومنعتها من الاقتراب من السواحل الإيرانية. يذكر أن بريطانيا فرضت معاهدة على مشيخات الإمارات عام 1820 بموجبها منعت الإمارات من بناء السفن والفرقاطات الحربية، بينما سمحت لإيران بتعظيم أساطيلها، وقامت القوات الإيرانية بحشد أكثر من 7 آلاف مقاتل لغزو لنجة بينما كان عدد المقاتلين العرب القاسميين أقل من 2000 مقاتل في لنجة، ورغم ضعف العدد والعدة في لنجة إلا أن المقاتلين العرب كانوا على أهبة الاستعداد، وبسبب دفاعاتهم البحرية البسيطة تمكنت البحرية الإيرانية من سحقها بسهولة قبل عملية إنزال جحافلها المؤلفة بآلاف المقاتلين، وبادرت القوات القاسمية على الفور بفتح نيران مدافعها على قطعان الفرس الذين كانت بحريتهم ترد بكثافة شديدة لم ترحم فيها لا صغير ولا كبير ولا عجور ولا امرأة.

كان على المقاتل القاسمي الواحد أن يقاتل أربعة مقاتلين إيرانيين، فكانت الكفة غير متعادلة لكن المقاتلين القاسميين على صيحات “الله أكبر” حاربوا بكافة ما توفر من سلاح خاصة السيوف التي جزوا بها أعناق الإيرانيين، ولم تتجرأ السفن الإيرانية على الرسو إلا على بعد 7 أميال من شواطئ لنجة خشية مدافعها التي قد تغرق سفن الفرس والتي كانت مدافعها بفضل التكنولوجيا البريطانية قادرة على الوصول نحو تحصينات مدينة لنجة الصامدة ومساكنها، واستمر القتال العنيف المميت لمدة يومين متتاليين بدون توقف ولو لدقيقة واحدة لا في الليل ولا النهار، وتواصلت الحشودات الفارسية المجوسية واستمرت قنابلها في التساقط على رؤوس الأبرياء، فخارت قوى المقاتليين القاسميين واستشهدوا ففاحت رائحة الموت وتطايرت الجثث وصاحت النساء وبكى الأطفال، ومن دناءة أخلاقيات الفرس قاموا بفصل رؤوس جثث العرب وعلقوها على الرماح، ثم طردوا أهالي المدينة مع الحاكم الذي غادر إلى رأس الخيمة، وبهذا اليوم المشؤوم بتاريخ 5 مارس 1899 سقطت مدينة لنجة القاسمية بيد الفرس وعم الحزن الأسى جميع مشيخات الإمارات، والغريب أن بريطانيا ارسلت تحذيرات إلى المشيخات تحذرها من محاولة اسرتجاع لنجة وتقبل الواقع الجديد.

بعد الانتصار الفارسي الكاسح على إمارة الشارقة تحديداً، استمرت المضايقات الإيرانية ضد السفن العربية، واستمر الفرس في طرد العرب من البر الفارسي، وأجبروهم على المغادرة، كما طلبت الدولة الفارسية من السلطة البريطانية عدم رغبتها في بقاء العرب في الأراضي الإيرانية وعدم عودة من غادرها، فقامت بريطانيا بتحذير حكام إمارات الساحل من عودة العرب في إمارات الساحل إلى البر الفارسي.

تتحمل جميع مشيخات إمارات الساحل سقوط لنجة، فلو أنهم عززوها بدلاً من حروبهم وصراعاتهم الداخلية لما سقطت تلك البقعة الاستراتيجية، وبسبب حالة المنع البريطانية لإمارات الساحل من توجيه سفنها الحربية نحو البر الفارسي، قام الشيخ زايد الكبير عام 1900 بإرسال وفد رفيع المستوى بالنيابة عن جميع إمارات الساحل ورسالة إلى الدولة الإيرانية يطلب منها حلولاً ودية بدلاً من حالة الحرب بينها وبين إمارات الساحل، حيث كان من المتوقع أن توجه الدولة الإيرانية أساطيلها نحو الجزر العربية التابعة لإمارات الساحل. وكانت ردة الفعل الفارسية في غاية السعادة من مبادرة الشيخ زايد الكبير، وقام الشاه بإرسال رسالة جوابية للشيخ زايد، وأهداه سيفاً ذهبياً. مع العلم أن الشيخ زايد طالب الدولة الإيرانية بدفع تعويضات لجميع العرب الذين تم تهجيرهم من البر الفارسي إلى البر الإماراتي. وعلى الرغم من أن مقاطعة لنجة لا تتبع أبوظبي إنما إمارة الشارقة، ولكن الشيخ زايد كان يعتبر جميع إمارات الساحل بلاده، كما وثق بقية حكام مشيخات الإمارات بتصرف الشيخ زايد الكبير.

فشلت مبادرة الشيخ زايد بسبب تدخل الدولة البريطانية التي رفضت الاعتراف بالتصرف الظبياني في إرسالها لوفد رفيع المستوى إلى بلاد الفرس، واعتبرته خرقاً للمعاهدة الموقعة بين إمارات الساحل وبريطانيا، وقامت بإرسال مدمرة إلى ساحل أبوظبي في استعراض قوي، مهددة الشيخ زايد بعدم التواصل مجددا مع بلاد الفرس ونسيان سقوط لنجة نهائياً. وبهذا خاب أمل إمارات الساحل في استعادة لنجة، فعادت الحروب الأهلية والصراعات الداخلية مشتعلة في جميع إمارات الساحل تقريباً، هذا بالإضافة إلى المحاولات الإنفصالية.

خشيت إمارة الشارقة أن تسقط جزر أبوموسى وطنب الكبرى والصغرى بيد الفرس، فعملت على تعزيز قواتها فيها وتشجيع بعض سكان إمارات الساحل على الهجرة إليها. من جهة أخرى، انتعشت حركة التجارة في ميناء دبي الذي أصبح تدريجياً الميناء البديل لحركة التجارة في منطقة الخليج بعد سقوط ميناء لنجة، حيث فضّل أغلب تجار لنجة الهجرة إلى دبي، التي شهدت انتعاشاً ملحوظاً عام 1903. وبدأت مدينة دبي في استقبال جنسيات مختلفة، وخاصة فئة العمالة من الهنود والإيرانيين، كما شهدت المدينة غلاءاً كبيراً، وأصبحت مدينة دبي الأكثر حركة ونشاط، ومستوى معيشي مرتفع.

في العام 1904 قام مسؤولو الجمارك البلجيكيون العاملون لحساب السلطات الإيرانية بإنزال أعلام القواسم من جزر أبوموسى وطنب ورفع أعلام إيران مكانها، مما أدى إلى تهديد بريطاني صريح باللجوء إلى القوات البحرية لإنزال أعلام إيران، مما أجبر السلطات الإيرانية على إنزال أعلامها والانسحاب من الجزر في العام نفسه. مع العلم أن بريطانيا طلبت من الشارقة رأس الخيمة عدم التدخل، وهي من ستقوم بالرد على إيران، وعادت أعلام الشارقة ورأس الخيمة ترفرف من جديد على الجزر. كما شهد العام 1909 وفاة الزعيم الظبياني التاريخي، الذي يعود الفضل إليه في توحيد أراضي الإمارة وحمى حدوده بقوة ضد الأعداء المتربصين به، الشيخ زايد بن خليفة بن شخبوط الفلاحي المعروف بزايد الكبير أو زايد الأول.

الحلقة (14) والأخيرة

لم تغير بريطانيا من موقفها تجاه المطالب الإيرانية بالسيادة على الجزر الثلاث: أبوموسى وطنب الكبرى والصغرى إلا في نهاية الستينات عندما أعلنت عام 1968 عن نيتها في الانسحاب من الخليج بنهاية عام 1971، حيث شرعت في القيام ببعض الترتيبات السرية منها وغير السرية لتمهيد الطريق أمام الولايات المتحدة الأمريكية للإسهام في ما سمي بملء الفراغ السياسي والعسكري الذي ستتركه في المنطقة بعد رحيلها.

في عام 1904 قام مسؤولو الجمارك البلجيكيون العاملون لحساب السلطات الإيرانية بإنزال أعلام القواسم ورفع أعلام إيران مكانها، مما أدى إلى تهديد بريطاني صريح باللجوء إلى القوات البحرية لإنزال أعلام إيران، مما أجبر السلطات الإيرانية على إنزال أعلامها والانسحاب من الجزر في العام نفسه. وفي عام 1912 طلبت بريطانيا إذنا من حاكم رأس الخيمة لتشييد منارة بحرية في جزيرة الطنب الكبرى، مؤكدة أن وجود المنارة في الجزيرة سوف يثبت أكثر من أي وقت مضى حق القواسم في الجزيرة. وافق حاكم رأس الخيمة على تشييد المنارة لقاء إيجار سنوي. وفي عام 1923 أعلنت إيران عن نيتها إثارة النزاع أمام عصبة الأمم، والدافع لذلك الإعلان لم يكن سياسياً بل كان اقتصادياً، حيث أنه كانت هناك مناقشة على استخراج وتصدير أكسيد الحديد الأحمر بين شركة إيرانية كانت تعمل في هرموز، وأخرى بريطانية كانت تعمل في جزيرة أبوموسى، فكان أن طلبت الشركة الإيرانية من حكومتها إحياء ادعائها السيادة على جزيرة أبوموسى وربط ذلك بادعائها السيادة على البحرين، ورفع الأمر إلى عصبة الأمم. وردت بريطانيا مذكرة الحكومة الإيرانية بموقفها الرافض الذي اتخذته عام 1904.

في عام 1925 عادت المسألة إلى الظهور في خريف هذا العام حين أرسلت سلطات الجمارك الإيرانية زورقاً إلى أبوموسى لفحص الأكسيد الأحمر ونقل كيس منه إلى إيران، وكان الرد البريطاني حاسماً حين أبلغ ممثلها في طهران الحكومة الإيرانية بأن الإصرار على ادعائها بملكية الجزر سيجعل من الضروري الطلب إلى حكومة الهند البريطانية أن ترسل سفينة حربية إلى أبوموسى للحفاظ على حقوق شيخ الشارقة فيها، مما أدى إلى توقف إجراءات سلطات الجمارك الإيرانية. وفي العام نفسه ظهر رضا خان الذي كان أحد ضباط فرقة الكوزاك وقام بانقلاب عين على أثره رئيساً للوزراء وانتهاء حكم اسرة القاجار علىى إيران، ثم توج شاهاً يوم 31 أكتوبر 1925 باسم رضاه شاه بهلوي، واسم بلهوي هذا هو اسم اللغة التي كان يستخدمها حكام إيران في مخاطباتهم الرسمية قبل الفتح الإسلامي لبلاد فارس.

وفي ضوء هذه التغيرات الجذرية على الساحة الإيرانية شرعت بريطانيا وإيران في المفاوضات حول إيجاد صيغة جديدة في العلاقات بينهما بما في ذلك مسألة الجزر الثلاث، وعرضت إيران عام 1930 فكرة تخليها عن المطالبة بجزيرة أبوموسى لقاء تأكيد سيادتها على جزيرة طنب الكبرى وطنب الصغرى، وأجابت الحكومة البريطانية بأنها لا يمكنها إعطاء بلاد فارس جزيرة لا تملكها بريطانيا، وهنا عرضت إيران أن تستأجر حكومتها جزيرة طنب الكبرى لقاء مبلغ من المال يدفع لحاكم رأس الخيمة مباشرة. ورفع السفير البريطاني العرض الإيراني إلى حكومته التي أوصت بعرض الأمر على حاكم رأس الخيمة مع بذل أقصى جهد لإقناعه بالموافقة، خاصة مع وجود مصلحة لبريطانيا في حال موافقة القواسم، حيث ينص التأجير لمدة 50 سنة، مقابل سماح إيران لبريطانيا بإنشاء منشآت بحرية عسكرية في الخليج العربي للفترة نفسها، ولكن في يوم 11 مارس 1931 وضع الشيخ سلطان بن سالم القاسمي حاكم رأس الخيمة ثمانية شروط من أجل منح موافقته للعرض الإيراني باستئجار جزيرة طنب الكبرى، وأنه غير مستعد للتنازل عن سيادته على جزيرة طنب الكبرى لقاء أي ثمن وانتهت المفاوضات البريطانية الإيرانية عند هذا الحد وتوقفت نهائياً عام 1933.

في يوم 29 ديسمبر 1934 قام حاكم رأس الخيمة بتصرف في غاية الغرابة وغير مفهوم، حيث أمر بإنزال علمه المرفوع على جزيرة طنب الكبرى، وسحب عماله هناك، فاستغلت بريطانيا تلك الفرصة الذهبية وقامت القوات البحرية البريطانية بالاستيلاء على الجزيرة لحين صدور تعليمات من القيادة البريطانية، ثم تم حل المسألة واعيد رفع علم رأس الخيمة على الجزيرة في شهر ابريل من العام 1935. وفي العام نفسه قام عدد من المسئولين الإيرانيين بزيارة لطنب الكبرى وأبوموسى مما أدى لقيام طائرات سلاح الجو البريطاني بطلعات استكشافية فوق الجزر استمرت لأسابيع، وعلى ما يبدو أن بريطانيا اعادت حساباتها حسب مصلحتها، خاصة بعد خروجها منتصرة من الحرب العالمية الثانية، واكتشاف النفط في الخليج بكميات تجارية، واستمرت في مماطلتها في قضية الجزر الثلاث، وفي عام 1955 اقترحت بريطانيا على الشارقة بأن تعترف بالسيادة الإيرانية على جزيرة “صري” مقابل اعتراف إيران بملكية الشارقة لأبوموسى، واقترحت على رأس الخيمة بيع جزيرة طنب لإيران، ولكن الاقتراح رُفض من الشارقة ورأس الخيمة.

في عام 1961، قامت إيران بانتهاك جزيرة طنب الكبرى وارسلت طائرة مروحية، وذلك من أجل قيام ملاحوها بالتقاط الصور الفوتوغرافية للفنار والأبنية المجاورة له وسألوا عن أسماء وجنسية الأشخاص الذين يديرون الفنار، وقامت بريطانيا على اثر هذا التصرف الإيراني بارسال مذكرة احتجاج، مشددة على أن طنب الكبرى من ملحقات إمارة رأس الخيمة منذ العام 1887، ولا يحق لإيران بانتهاكها. وفي العام 1968 أعلنت بريطانيا عن نيتها في الانسحاب من الخليج بنهاية 1971م، وشرعت بالقيام ببعض الترتيبات السرية منها وغير السرية لملء الفراغ السياسي والعسكري الذي ستتركه في المنطقة بعد رحيلها، وبات من المؤكد أن بريطانيا هي من أوعز إلى إيران بضرورة احتلال الجزر الإماراتية بمجرد إلغاء معاهدة الحماية البريطانية على مشيخات الإمارات، وهذا ما تم بالفعل في يوم 29 نوفمبر عام 1971، وكان حاكم الشارقة الشيخ خالد رحمه الله قد فضّل الحوار مع إيران عبر الدولة الاتحادية الوليدة وليس باسم الشارقة، ولكن إيران لم تمهله. أما جزر طنب الكبرى والصغرى، فقد تم احتلالهما من قبل إيران بتاريخ 30 نوفمبر 1971، ثم طردت إيران المواطنين الإماراتيين المقيمين في طنب الكبرى، وكان عددهم 120 فرداً، وكل هذا قد تم بأوامر من بريطانيا.

للشيخ زايد رحمه الله مقولة حكيمة حول النزاع على ملكية الجزر، حيث قال “إذا قدمنا براهيننا وقدموا براهينهم للتحكيم فهذا هو الذي سيقرر الصحيح والباطل منها، اقصد بذلك اللجوء إلى محكمة العدل الدولية”، ولكن هذا الأمر لمن يفهم لغة الحوار وليس كدولة متعنجهة مثل إيران.

باختصار، من تسبب في هزيمتنا وخسارة جزرنا ومساحات هائلة من أراضينا في البر الفارسي، ومن ثم تعرضنا للاحتلال البريطاني لمدة 200 عاماً هي حروبنا الأهلية.

10 آراء على “بداية العدوان الإيراني على الجزر الإماراتية المحتلة عام 1715 م

  1. مجهود طيب من أخ كريم,,, ذلك هو التاريخ الذى يجب أن يتعلمه الجيل الحالى حتى يعى الدرس جيدا, كى يسعى جاهدا لاسترداد ما سلبه الآخرون بالتآمر وبسبب تراخى أسلافه من الحكام وتكالبهم على السلطة والمنافع الشخصية.

  2. جزاك الله خيرا على هذا الطرح الممتع و الغني بالمعلومات القيمة. عجبني التسلسل المتقن للاحداث و التعليقات الصريحة و الصادقة. الحمد لله على نعمة الاتحاد فلولا ان الله يسر لنا حاكما بتصميم و حنكة زايد لما كان لنا ذكر غير التنازع و الخلافات و الضعف.

  3. الامارات الوطن.. الوطن كل شبر بدون استثناء.. الامارات الحب.. حب القائد.. حب الأهل هم الشعب.. الامارات أمل.. مستقبل مشرق.. الامارات الجذور.. في الأرض متأصلة و في السماء مثمرة.. خيرها على الجميع.. وظلها خير لمن يريد.. الامارات رجال.. وأي رجال.. حين الحزم.. نحن العقاب لمن جهل.. الامارات شموخ.. عز وطموح.. نحن الامارات يا من تسأل..

  4. جهد مبذول من الكاتب وتميز في الاختيار ، تاريخ دولة الامارات واضحة ملامحه ولكن للاسف احيانا يخفى على الجيل الجديد الذي يعتقد بان سياسة الاحترام هي ضعف . ولا يعلمون بالصراعات والمشاكل التي ذكرت هنا ولا يعلمون ان هذه المشكلات هي منذ زمن بعيد ولكن بسبب حنكه اولي الامر منا كان المواطن البسيط لا يلم بتفاصيلها . وان لهم بان يتعرفون على جهاد اجدادنا ، ومن يظن باننا نبالغ وباننا نصعد الامر فهو خاطىء لم يناضل اجدادنا لنخذلهم اليوم.. ولن نصمت ليسلبنا نجاد واصحابه نعم نحن دولة مسالمة ولكننا دولة لا تسود الا نفسها فعليه ان يحترمها فلا اختيار له والايام سثبت له ذلك .. وتطاوله امر غير مقبول لدينا حكومة وشعبا .. ولكننا قوم نعترف لليوم بالاخلاق وحق الجار.. فسوف نصبر ولكن عليه ان يراعي ذلك ولايتمادى فجزرنا كعرضنا لا نرضى احدا ان يلمسه .. والامارات دولة قوية بشعبها .. وسنرى وسيرى نجاد مع الايام .. ويجب ان يضع لنفسه حدودا معنا فنحن لا نحب التعامل مع الاطفال

  5. الفكر السلفي الـــــــــــــــــــوهآبي !!!

    اهكذا تخآطب الشقيقه الكبرى والداعمه لاستقرار دول مجلس التعاون جميعا ، بل ويخاطب قبلها الدين الاسلامي الصحيح عن السلف رحمهم الله بلفظ الوحشيه والهمجيه ؟؟؟ … عتبي عليكم يآ ابنآء زايــد الخخير

  6. احييك اخي الكريم على هذا المقال انا وصلت للحلقة رقم ١٣ و ساكمل لاحقا ،، اخي الكريم انا ادعوك للانضمام لمنتدى عرب الساحل و الجزر فانت عندك و لله الحمد العديد من العلومات القيمة عن الساحل الشرقي و جزر الخليج

  7. كل الشكر والتقدير للاخ الفاضل كاتب المقال
    ياريت اهل هذا الجيل يتعلموا الدرس من اخطاء اجدادهم
    وبالنسبة لايران فهي مجرد طفل مدلل وهذا ما يجب ان يعرفه العرب-_-

  8. بسم الله الرحمن الرحیم…
    الله الله الله…. من کذب الکاذبین… و کید الکذابین….کم من کذب قد ورد فی هذا المجال…
    الله الله الله… من کید المنافقین…. الذین خسروا… و الدین باعوا کرامتهم بثمن قلیل…
    کلامهم یثیر الکراهیه و الاشمئزاز…

    لیس فیه ای علاقه مع حقایق التاریخیه…

    ماذا کسبتم؟ هل الدراهیم تنجیکم من النار التی الله سبحانه و تعالی وعد للکذابین ؟
    احب اخواننا العرب… لست بالمجوس و لا ایرانیه… افتخر بالاسلام و برسولنا صلی الله علیه و آله و سلم و بکتابه الکریم…احب العربیه، لان هی لغه القرآن… لغه اهل الجنه… ارجو من الله سبحانه و تعالی سعاده اخواننا المسلمن و اخواننا العرب و طرد المطرففین منهم، الذین یسعون خرق الامه الاسلامیه… لصالح الیهود و لصایح اعدائنا…

    اسئل الله سبحانه و تعالی مزیدا من الصداقه و اخویه بین المسلمین… سعادتهم و نجاحهم…
    ولله الحمد و السلام علیکم

  9. بأختصار شديد جدآ كان صدام سحارب لاجلكم ايران 8سنوات وأول ماكمل الحرب وبلده خراب اجيتو تضربون سعر النفط حتى تنهون من كان يدافع عليكم ولله تستاهلون

أضف تعليق